ام عمر تريدنصيحة الجنرال — قصة قصيرة
الاديب : محمد نجار
كانت تتردد بشكل يومي، تلك المرأة الثمانينية، على مقر المقاطعة حيث أعمل
حارساً، تمر بخطوات متثاقلة حاملة كل سنوات عمرها الثقيلة فوق كتفيها، مستعينة
بحديد السلالم عندما تصعد الدرجات، وتقف لتلتقط أنفاسها بين درجة وأخرى. تأتي
مع شمس الصباح وتغادر عند مغادرة النهار، تجلس على مقعد خشبي بانتظار ان
يسمحوا لها بمقابلة الجنرال.
كنت أسمعها تهمس لنفسها متسائلة:
ـ كيف صار الجنرال جنرالاً وهو لم يحمل طوال حياته بندقية؟ حتى بندقية الصيد
كانت تُصيبه بالهلع عند رؤيتها!
سرعان ما تستغفر ربها:
ـ أستغفر الله العظيم.
كأنها ارتكبت إثماً بحق الذات الإلهية.
ظلّوا يمنعونها من مقابلته، بل لا يعيرونها انتباهاً ولا يعطون مطلبها اهتماماً،
فالجنرال ليس لديه وقت لإضاعته لأي كان من أمثالها، ولا لكل منْ هبَّ ودبَّ كما
قال أحدهم، فوقته ثمين ولا يمكن التفريط به. لو كانت صحافية من البيت العبري
لفرشوا لها الأرض رملاً، واستقبلها سيادته خارج مكتبه وأجلسها بنفسه على مقعدها.
جُلّ الوقت يبذله مع أبطال التنسيق الأمني، كي لا يفلت من بين أيديهم "لا سمح الله
ولا قدّر" محرِّض ينشر الكراهية بين الناس والبغضاء لأبناء العم، ولا أن تتسلل خلية
تخريبية، أو قطعة سلاح عبثية.
أم عمر التي لا تعرف هذا الأمر، ظلت تتردد منذ ما يزيد عن أسبوع وما
تزال، للقاء السيد الجنرال التي تملأ النياشين صدره. حاشية الجنرال وحكومته
ووزراؤه وموظفوه لم يعيروها انتباهاً يُذكر، لكن أم عمر التي ظلّت تجلس صامتة في
بداية الأمر، أخذت مع طول قعدتها ومرور الوقت الثقيل تزداد سؤالا عن موعد قدوم
الجنرال، وأحياناً كانت تتساءل بسذاجة:
ـ هل الجنرال في التدريب؟
ظنوا حديثها خبث فلاحة شمطاء، فكانوا يستشيطون غضباً معتقدين أنها
تستهزئ بالجنرال، الذي تعتلي النسور المُذهبة أكتافه، وتملأ صدره النياشين مثلما
تملأ الرصاصات الفارغة قلب مسدس سينمائي. بعد أيام أخذت تقول شيئا من
مكنونات صدرها، الأمر الذي جعل بعض رجالاتنا الأشاوس، يستشعرون الخطر
الكبير الذي تحويه هذه المرأة العجوز في صدرها. أخذها أحدهم إلى أحد المكاتب
للتحقيق معها، مَنْ يعلم؟ فربما تكون مدسوسة لتعكر صفو الجنرال أو لتجلب له
الغضب ولأيامه التعاسة.
قال لها المحقق العقيد أبو هاني، أحد أبطال التنسيق الأمني، حيث كان بعض
أصدقائه يتهكمون عليه مازحين قائلين، أنّ عليه أن يأخذ معاشه من حكومة
"إسرائيل" مباشرة وليس من السلطة، لعظمة ما يقدمه لها من خدمات. كان مثاله
الأعلى المحقق شلومو، الذي على يديه تمت أعلى نسبة من الاعترافات في العامين
الأخيرين. سأل بهدوء وخبث كعادته:
ـ أهلاً وسهلاً يا أمي، لماذا تريدين مقابلة الجنرال؟ كما تعلمين فسعادته لديه جيش
كبير لا يستطيع تركه. أمانة كبيرة يا أمي والجنرال خير من يصون الأمانات.
قالت الحاجة أم عمر التي لا تعرفه:
ـ والله لم أعرف يا بني أن لدينا جيشاً، الحمد لله، هذا يعني أنهم سيمنعون الأوباش من
اقتحام مدننا وقتل واعتقال أطفالنا.
كادت أن تُطلق زغرودة مدوية، لكنها لاحظت كيف تنغرس عينا المحقق مساميراً في
جسدها، وتذكرت أن لديها ما تقوله قبل ذلك، قالت:
ـ لا أخفيك يا بني أنني في الفترة الأخيرة أسمع الكثير من الجنرال أو على لسانه، قبل
أن تُخبرني أنه مشغول مع الجيش على الحدود، وأنني أكاد لا أصدق ما أسمع،
فقررت أن أقابله كي أسأله وأقدم له نصيحة أيضاً…
قال العقيد أبو هاني:
ـ لنبدأ ممّا سمعت منه أو على لسانه وبماذا تريدين سؤاله، ومن الذي أسمعك أو حثك
وجعلك تقررين مقابلته؟
لم يعجب الحاجة أم عمر سؤال العقيد أبي هاني، لذلك تجاهلت مالا يعجبها في
السؤال، وأجابت بنفس الهدوء، لكن بكلمات متعبة لاهثة:
ـ سمعت الكثير يابني، الكثير، لدرجة أنني أحياناً كنت أفكر وأقول أنه ليس من
المعقول أن الجنرال يبول من فمه، وكنت أُكَذِّب أذني، لكن "الشمس لا يمكن إخفاؤها
بغربال".
إبتلع العقيد أبو هاني ريقه، لكنه فضّل أن يظل على هدوئه ليعرف ما تريد هذه المرأة
بالضبط ومَنْ الذي وراءها، وسأل مجدداً:
ـ كيف يا أمي؟ كيف؟
قالت العجوز مستغربة:
ـ أتسألني كيف؟ ألم تسمعه يستجدي الصحفية قائلاً أنه يريد لقاء زعيمهم في أي مكان
وزمان، ويقول"جربوني" أسبوعاً وإن لم أنجح أعيدوا الأمر على ما هو عليه. أإلى
هذه الدرجة وصلت المهانة؟ يجربوه في ماذا؟ إن كان يقتل ويعتقل ويعذب أكثر منهم
أم لا؟ هل يريدون منه شيئاً آخر غير ذلك؟ ألم يدرك بعد أن "مَنْ ليس لديه خميرة لا
يخمر له عجين؟" وهو كما كنتُ أظن لا خميرة ولا طحين. مأثورنا الشعبي يقول
يابني "المنايا ولا الدنايا"، وهو رجل هرم مثلي ويعرف ذلك جيدا، وإن كان لا يعرف
ليستقيل ويترك الأمر لمن يعرف.
سكتت قليلاً لترتاح من ثِقَل الكلمات وتابعت:
ـ ألم يقل ذات يوم أنه لو خرج ضده شخصان اثنان في مظاهرة سيستقيل؟ لماذا لا
يستقيل إذن وضده كل هذه الأمة؟
قالت كأنها تستهزئ بكلمات العقيد:
ـ كان ذلك قبل أن تخبرني أنه يقود جيشاً، يُدرّب ويُسلّح ويحارب وينقل تجربته
الكبيرة في ميادين القتال للآخرين. كنت أظن أن لا أحد يريده نتيجة أفعاله تلك سوى
المستفيدين، وأن المسحجين ليسو كل الناس؟ كم فكرت أنّ الإنسان يا بني يرتبط من
لسانه وليس من حافره، البهيم أعزّك الله مَنْ يرتبط من حافره. قلتُ في نفسي:
ـ ليترك الأمر للشباب الذي يستطيع على مالا يستطيعه، خاصة وأن مدة حكمه قد
انتهت وولّت منذ سنين. ماذا تبقى له من الأيام بعد هذا العمر الطويل؟ حتى مدة
صلاحيته بعد هذا العمر قد انتهت، اسألني أنا. ليطالب بحقوق شعبه كاملة غير
منقوصة ويسجل موقفاً واحداً يتذكره الناس بالخير به، و"أكثر من القرد لن يسخط
الله".
سكتت الحاجة قليلاً ثم أكملت من جديد:
ـ والله لم أكن أعلم أنه يمتطي البندقية ويقود جيشاً! لكن كيف يحمل بندقية ولا يعطوه
شيئاً؟ على كل حال "لا يضيع حق وراءه مُطالب" يابني، كل ما عليه تثبيت مطالبنا
وترسيخها، وقصتنا قصة تحلها الأجيال، فليترك الأجيال تقوم بمهامها.
فكرت أكثر وقالت:
ـ لكن قل لي يا بني، ما هذا الجنرال الذي يتركهم يدوسون أرضنا في كل يوم ولا
يحرك ساكناً؟ كيف يترك أسرانا في السجون، ورصاص الأعداء يخترق صدور
نسائنا وأطفالنا؟ أصحيح ما تقولونه أم أنك تمزح معي مزحة ثقيلة سمجة؟
أخذت الدماء تغلي في عروق بطل التنسيق الأمني العقيد أبو هاني، لكن تجربته علّمته
أن يظل مستمعاً حتى النهاية ليعرف كل شيء عمَّن أمامه، قال:
ـ لكن هذه المظاهرات يقوم بها فصيل واحد ضده ياحاجة، وليس كل الشعب
الفلسطيني.
قالت الحاجة أم عمر:
ـ "أول الرقص حنجلة" يا بني، هل سينتظر الجنرال ليقوم ضده كل الشعب؟ إنه
يعرف أن معظم الشعب لا يؤيد سياسته، ربما لأن الناس لا يعرفون أنه يقود الجيوش
ويدربهم! الشعب يعرف أنّ "عدو جدك ما بودك، ولو عبدته مثل ربك".
سكتت قليلاً ثم تابعت قبل أن تنسى:
ـ هذا الفصيل الذي تتحدث عنه لم يقم لا بانقسام ولا بحرب داخلية ولم ينجر لفتنة، قدّم
الشهداء من القيادة حتى الأعضاء، ظلّ شريكاً وفياً والسجون مليئة بأعضائه كما تعلم،
أنا وحدي لديّ اثنين من أبنائي في السجون منهم.
أدرك أبو هاني من أين لهذه المرأة تلك الأفكار الهدّامة الحاقدة، قال:
ـ لكنهم أحرقوا صوره ياحاجة، أليس من المعيب فعل ذلك؟
ردت الحاجة أم عمر وقد رأت نفسها في معركة مع هذا الذي يجلس أمامها:
ـ "شوف يا بني، اجلس أعوج وتكلم عِدِلْ" إن كان ما سمعته صحيحاً، يكون هو قد
حرق قلوبهم وقلوبنا بتصرفاته وأقواله؟! إن كان هؤلاء قد حرقوا صوره فعلى أبناء
تنظيمه أن يرموه بعيداً ويزيحونه من القيادة، كما أكد ابني الثالث القابع في السجن منذ
سنوات، والذي هو من أبناء التنظيم الذي يدّعي الجنرال أنه ينتمي اليه. ثم كيف يمنع
عنهم مستحقاتهم المالية؟ من هو وبأي حق يفعل ذلك؟
سكتت قليلاً كأنها تستجمع قوتها لتتحدث من جديد:
ـ هذه الأموال يابني هي أموال الشعب وليست ملكاً شخصياً لهذا الزعيم أو ذاك. قال
أحد أبنائي أن تلك المستحقات السنوية ربما تكون أقل من مصروف أحد أبنائه
الأسبوعية، فهل هذا صحيح؟ هل يُعقل ذلك؟ هذا الأمر يعني إما أن تبصموا على ما
أفعل أو تموتوا جوعا؟!
هؤلاء يعرفون أن "الشعير للبعير"، لذلك ظلوا طوال حياتهم رافضين أن يكونوا
قطيعاً. وأهم من هذا وذاك، هل كلّما خرج الناس في مظاهرة يخرج عليهم بالهراوات
والبنادق؟ ماذا أفرق عن الاحتلال؟ آه… هل يكون جنرالاً علينا نحن ومعهم حمامة
سلام؟
كان بطل التنسيق الأمني العقيد أبو هاني يعرف أن ما تقوله الحاجة صحيحاً،
ومهمته الحد من مثل هؤلاء المتطرفين الذين ما زالوا يُحرّضون على الجنرال وعلى
قطار التسوية الذي ما يزال يسير. ها هو يعرف أن أبناء تلك المرأة في السجون ما
زالوا يحرضون، وهي معلومة جيدة يمكن البناء عليها، فأكمل مع الحاجة محاولاً
كشف المزيد، معتقداً أنها تقول ما تقول من باب التهكم عليه وعلى الجنرال. قال:
ـ يظل الجنرال ياحاجة زعيمنا، ونحن لا نعرف كل أمور السياسة، لكنه رغم كل ذلك
يحب وطنه مثلك تماماً.
قالت الحاجة أم عمر وهي تنظر مباشرة في عيني بطل التنسيق الأمني:
ـ من يحب بلده عليه التقدم بالقرابين، شهداء أم جرحى أم أسرى، وأنا لم أرَ الجنرال
قد قدم أحداً من أبنائه أو أحفاده. هل صحيح أنه يكنز لأولاده وأحفاده الأموال في
الوقت الذي يقدم فيه الشعب كل يوم دمه؟
تذكرت شيئاً فسألت:
ـ هل صحيح ما يقولونه عن عرس ابنه الخمسيني من فتاة صغيرة وكلّفه الملايين؟
لم تنتظر إجابه، فكما سمعت أنه ومعظم حاشيته يفعلون ذلك وأكثر. تابعت منتقلة
لشيء آخر:
ـ سمعتُ أنه وبعض معاونيه يبعثون أولادهم وأحفادهم ليشاركوا في مخيمات
اسرائيلية! لماذا لا يريد أن يفهم أنّ "العدو ما بيصير حبيب ولا فرخ الحية بنحط في
الجيب". يا بني، الأمر مبتوت ومعروف.
سكتت الحاجة أم عمر قليلاً، قالت موجهة له كلامها من جديد، كأنها أدركت أن هذا
الجنرال هو مَنْ يساعدهم في تقتيل أبنائنا كل يوم، فعادت لما أرادت قوله:
ـ أتعرف ما يدهشني؟ أن الجنرال لا يعرف أن هؤلاء كلما ازدادوا تطرفاً، كلما كان
يوم نهايتهم أقرب، كأنه مرّ من الحياة مرور الكرام ولم يتعلم شيئاً بعد كل هذا العمر!
ربك يا بني إنْ أراد الإسراع في موت نملة خلق لها جناحين.
إزداد ضغط العقيد أبو هاني، ولم يعد قادراً على تحمل المزيد، والحاجة أم عمر التي
أخذت المزيد من الهواء، ما يكفي لقول بقية كلماتها، قالت:
ـ على كل حال، لقد جئت لأقول كل ذلك للجنرال مباشرة، من رأسي لرأسه، وأقدم له
نصيحة علّه يُراجع نفسه قليلاً، رغم أن "الضرب في الميت حرام".
ـ وما هي هذه النصيحة؟
سأل العقيد ابو هاني ولم يعد قادراً على مجاملة هذه العجوز الإرهابية المجنونة، حتى
لو كان من أجل معلومات توقع أن يسمعها، حين أكملت الحاجة أم عمر قائلة:
ـ جئت لأطالبه، على الأقل الآن في آخر عمره، بأن يكون رجلاً مرة واحدة، وأُذكّره
أن الذئب عندما قبل التدجين صار كلباً.
كنت في نوبة الحراسة آنئذٍ عندما سمعت صريخ "بطل" التنسيق الأمني العقيد أبو
هاني من وسط مكتبه، منادياً عليَّ قائلاً:
ـ خذوا هذه العجوز الشمطاء خارجاً، لا أريد أن أراها مرة ثانية بعد الآن، برّه "خلِّيها
تحل عن قفانا"، حتى لا أضعها في السجن لتموت هناك.
أخذتها وأنزلتها الدرجات معتذراً عن كلماته بعينيّ، لكنها ظلت مصرّة على
مقابلة الجنرال، تأتي يومياً الى المقاطعة رغم منعها من الدخول. عملت من صُخيرة
مقعداً لها بجانب البوابة، تجلس عليها منذ شروق الشمس حتى مغيبها، عدا بضعة أيام
كل بضعة شهور، حيث تذهب لزيارة أبنائها الثلاثة في سجون الإحتلال المختلفة.
تتحدث عن أمور شتى، خاصة بما قالته "لبطل" التنسيق الأمني العقيد ابو هاني منذ
لحظة دخولها واستدراجها بالحديث، حتى أقسم لها بأن يعمل على أن يتحول أبناؤها
المحرضون، بعد انقضاء فترة محكوميتهم، للسجن الإداري، طالباً ذلك رسمياً من
الصهاينة.
كنت أنظر لهذه المرأة الثمانينية وأزداد استغراباً وأنا أراها كتلة مشعّة من
الأمل والإصرار والعنفوان.