مقدمة كتاب أحمد حسين : الرفض المشتبك
توطئة بقلم عادل سمارة ومسعد عربيد
وقع إعداد هذا الكتاب بين حدَّيْن في منتهى الحِدَّةِ والتقاطع والمحايثة؛ هما:
• الوفاء الرفاقي الذي وحَّدته الرؤية الرائية الممتدة من البعيد العميق إلى القادم المجهول وما رافق ذلك من ثمن الطمس والإقصاء والشيطنة والتحريم من البيت وعدوِّه على حدٍّ سواء؛
• وواجب تأسيس الاتصال بين المرتحل والجيل القادم كي يضيئ لهذا الجيل ويسعفه هذا التذخير، في استعادة العروبة، في كل موقعة قادمة وهي عديدة.
هذا الكتاب إعداد لبعض مسيرة أحمد حسين في مكوَّنَيْها الرئيسين:
رفض ونقد والاشتباك مع كل ما هو قائم صهيونيا ً وراهناً عربياً دفاعاً عن القومية العربية، وردّ كل هؤلاء لأحمد حسين بالطمس والتغييب حتى في يومه الأخير حيث وُورِيَ الثرى بعد ساعات معدودات من تسليم روحه للفضاء الأوسع! كان يجب التعجُل بالتخلَّص منه راحلاً كما كان اغتياله حياً. اغتيال امتد من رعشة الحياة الأولى رعشة الميلاد 1939 وحتى الرعشة الأخيرة رعشة الرحيل 23 آب 2017.
بين دفَّتَيْ هذا الكتاب بعض مساهمات أحمد حسين الشعرية، الفكرية، السياسية، العروبية، الأممية وفي كل هذا تتموضع حيفا عاشقة له وعاشق لها، لكنه عشق موقوف إلى الأبد إذ حِيْلَ بين أن ينام في الكرمل كمثوىً أخير.
لا شيء كان بمقدوره إنزال العُصم عن جبل العروبة والقومية العربية ولا تمكَّن أوغاد المرحلة من تليينه فكان لا بد من انتصار أوغاد المرحلة عليه بالطمس والاغتيال بدفن الجثمان فوراً كي لا يشارك أكثر محبيه.
هنا كان لا بد أن نُقاتل به مجدداً وابداً ليبقى مرتحلاً لا راحلاً.
هذا الكتاب، لا هو فقط في الشعر، ولا هو فقط في الأدب والسياسة والفكر بل فيها جميعاً ولكن لأجل غاية واحدة هي التأسيس لفهم ونضال عروبي مختلف ورفض الدين السياسي أي ما اسماه “الهجرية” حيث الفقهية قتلت القومية العربية بالدين السياسي الذي أرَّخ لولادة العرب بالإسلام نافياً وجود وحضارة أمة قديمة عريقة وبخلاف كافة قوى الدين السياسي في الكوكب التي سخَّرت الدين قومياً بما هو جزء من الثقافة وليس أمة بأي معنى عملي ولا منطقي.
في تعميم مشروعه العروبي العلماني الاشتراكي والتحريري بالطبع خاض أحمد حسين اشتباكه الدائم نقداً، حتى الموت، لإدوارد سعيد ومحمود درويش وإميل حبيبي وعزمي بشارة ونقداً ومحاورة مع آخرين كثر. أمَّا لماذا كل هذا القصف للفئة الأولى، فلأن أربعتهم، بشكل خاص، لا حصرِيٍ يمثلون مشهد الركوع المتبختر والمتفاخر مُذخَّراً بمستوى من الفن والفكر والفلسفة والتلاعب اللغوي بمسيرة الشعب العربي الفلسطيني فكانوا بين عربي استشراقي ومتخارج بين العروبة والتغربن وبين حائر ومحيِّر بين الوطن والتطبيع.
وفي حين احتفت المنابر وتلعثمت الحناجر في البوْح والنوْح على من رحل من هؤلاء، ووصلت منابر وعساكر من بقي أربعة أركان الكوكب ساحبة في اذيالها مئات الذيول قِصارىً وطِوالاً من الطابور السادس الثقافي وخاصة التطبيعي، فإن المُغتال أحمد حسين كان يجب مواصلة موته حتى اليوم.
إلى جانب التصدي لأربعتهم، إلا أن أحمد حسين أبقى على مرور ما على كُتاب آخرين في مواقفهم وأطروحاتهم ضمن هذا الاتجاه أو نقيضه.
هنا قد يسأل القارئ/ة، وما الغرض من هذا الجمع/التجميع لكِتاب لا هو في الأدب تماماً ولا هو في السياسة تماماً ولا هو في سيرة الحياة تماماً؟
وقد نقول إجابة: نعم، لكن هذا الكتاب هو فلسطين مُقارَنةً في أدب، وفكر وشعر وسياسة شخوص مركزية في المسألة الثقافية ومن البلد نفسه. بكلام آخر، هو فلسطين في مجمل مواقف ومسيرة كل من هؤلاء، ولكن ليس إنتاج أيٍّ من هؤلاء بالتمام، إنما فيه ما يعطي صورة حقيقية وكافية عن موقف كل منهم، ولهذا السبب كان الكتاب! لذا قال دوقلة المنبجي في بيتٍ ديالكتيكي من شعره قبل أكثر من ألفية:
“ضِدَّان لمَّا استُجمِعا حَسُنا… والضدُّ يُظهر حسنه الضِدُّ”
قلب هذا الكتاب هو النقد والصدْ، ولكن بالعرض أكثر مما هو بالتحليل ذلك لأن كل مقال أو بحث في هذا الكتاب إما ردُّ أحدهم على الاخر مباشرة، أو يمكن اعتبار مضمون المقال او البحث رداً نقدياً من أحدهم على الآخر.
وفي هذا تحرير الموقف النقدي من ايدينا لصالح القارئ دون تعليم أو تعاليم من جانبنا وهو ما نرمي إليه بتحفيز المحاورات وليس التعاليم. فليس هذا الكتاب قراءة لما كتبوا وما قالوا، بل اختيار بعضا مما قالوا بطريقة تؤكد أن بين ما قالوا كان محاورات، جدل، تضاد وليكن الحكم للناس والوطن.
بينما الهدف المُضمر من الكتاب مقاومة بالثقافة المشتبكة وحصرياً في زمن استدخال الهزيمة ودور مثقفين/ات في تجسيد هذا الاستدخال وهي مهمة صعبة يُشفق فيها المراقب على المُقاوِم والناقد إذ تتصدى لهما فيالق المطبعين ساسة ومثقفين والأعداء بلا شك مسلحة بشكل معولم بإرهاب الإعلام والبوليس والعسس/أي المخابرات بعلم اليوم.
في مشروع استدخال الهزيمة وأخذ الفكر والأدب بعيدا عن السياسة أو لنقل “تمويت” السياسة في الفكر العربي ينشط الطابور السادس الثقافي في التعاطي مع نتاج محمود درويش وإدوارد سعيد وإميل حبيبي وعزمي بشارة وأضرابهم تعاطياً ثقافيا فنيا فكريا مجردا من السياسة! وبهذا يتم إخفاء السقوط التطبيعي والتسووي واللاعروبي والقُطري في كتابات مختلف مثقفي الطابور السادس وفريق المثقف المنشبك حتى الفئة/الطبقة/الطائفة المنشبكة بنظام سياسي وطني ولكن قُطري. ورُبَّ سائلٍ يقول: وهل هؤلاء جميعاً في نفس الموقف في الضدِّ من القومية العربية والعلمانية والثورة والمقاومة؟ لنقول: ليس شرطاً، ولكن ما نرمي إليه هو وصول القارئ بنفسه إلى تقييم لكل منهم ذلك أن هدفنا الدفاع عن أحمد حسين ضد الطمس فوجدنا معارضته بالآخرين خير دفاع.
نُصوص أحمد حسين مهمومة بالسياسة التي هي هنا وفي كل مكان مجسدة في العدوان الإمبريالي الغربي الذي تستهدف غزوته الجارية منذ ثلاثة قرون كامل الوطن العربي، والنضال العربي للمواجهة، والصراع العربي الصهيوني الذي هو صراع مع الغرب الرأسمالي الإمبريالي، ولتحديد الصراع بين الوحدويين العرب واضداد الوحدة. وهنا تبرز أهمية السياسي لأن المواقف السياسية للمفكرين والأدباء هي التي تميز بين الانتماء وبين الذاتية والانحراف حتى السقوط.
في السياسة لا حياد، ولا ينطلي التمويه، بينما في الكتابة المجردة عن الفن والرمزية والثقافة وجمالية اللغة يمكن ان يستوي المفكر المناضل /الشهيد والمفكر عديم الانتماء او المتعالي على الانتماء. لذا يتعالى مستدخلو الهزيمة أحياناً عن السياسة ليغطوا على عدم انتمائهم او تخارجهم.
لكي تفهم إميل حبيبي وإدوارد سعيد ومحمود درويش وعزمي بشارة، عليك أن تقرأ مواقفهم من القومية العربية. هذا لا يعني تجاهل او شطب مستوياتهم الفنية والفكرية في الشعر والأدب والثقافة والسياسة بل ما نقصده أن نُقدم للناس كل واحد منهم بجوانبه كلها.
وإذا كان هؤلاء وكثير مثلهم قد أفصحوا عن لا عروبة أو عن إنسانية عمومية فضفاضة لتليق بعدم الانتماء كي “يتحرروا” من العروبة، ويتورطوا في التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني ونقد المفاوضين من باب عجزهم الفني والافتقار لشطارة الشاطر حسن، وليس من باب رفض النهج التفاوضي نفسه، فإن أحدهم قد دخل العروبة متلبساً ثوبها ومضاداً لجوهرها، أي دخل بعروبة صهيونية والتي مثلها عزمي بشارة وقطع في هذا شوطاً هائلاً بقدر ترليونات إمارة قطر النفطية. إنها ثقافة الشراء، التخريب بالشراء. ولعلَّ هذا الاختراق للبنيان القومي هو الذي أهدى حكام الخليج في الرياض وأبو ظبي بأن يُغلِّفوا العدوان ضد اليمن منذ 2015 باسم “التحالف العربي”!
ليست هذه المقدمة بحثا تاريخيا في أسس استدخال الهزيمة والتي بدأت مع التجزئة الإمبريالية للوطن العربي 1916 وخاصة المشرق وتخليق كيانات قطرية ظلت وستبقى هشة وفاشلة بالضرورة والضَرَرْ. هذا من جهة، ومن جهة لصيقةٍ ثانيةٍ كان وعد بلفور 1917 لإقامة الكيان الصهيوني هو الوليد الآخر ليرتبطا بحبل سُرِّي يوحد مصيرهما مهما بلغت عنتريات الحكام العرب والتي لا تخرج عن حدود المسموح الإمبريالي الصهيوني لهم. فمن يطالع مواقف هذه الأنظمة من القضية الفلسطينية أي الصراع العربي الصهيوني يكتشف بأنها لم تكن قط باتجاه دفاع/قتال حقيقي ضد الكيان الصهيوني والإمبرياليات التي ورائه لأن هذه الأنظمة بقيت على ارتباط تابع باسم “الصداقة” مع الإمبريالية نفسها. ونظراً لهشاشة هذه الأنظمة، فهي كانت ولا تزال تعلم بأنها مفروضة مُقحَمَة على الشعب العربي وبالتالي هي عرضة للسقوط وهذا شكَّل كابحا إضافياً لها كي لا تخاطر في أية حرب حقيقية ضد الكيان والإمبريالية بالطبع. وهنا تأتي خطورة مفكري التغطية على كل هذا بَلَغت البلاغة ما بلغت.
على أن الصفحة الأكثر وضوحا وقربا لاستدخال الهزيمة ومن باب دور المثقفين/ات هي منذ توقيع النظام المصري السابق اتفاقات كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني. وهذه الاتفاقات، كونها علنية، فقد رافقتها تزكية مثقفين عضويين للطبقات الحاكمة ليصبح استدخال الهزيمة سياسي طبقي وثقافي ايضا.
والثقافي في هذا السياق ليس مجرد ديكور ولا مباركة شكلانية للهزيمة بل تنظير لها وتبرير وحتى تسويق بالاستحسان أو بحتمية غياب اية بدائل ضدها.
إعداد هذا الكتاب مسألة مقارنة مواقف أو مواجهة الأضداد، اي ليس شخصيا بأي معنى، وإن كنا لا نخفي انحيازنا لأحمد حسين الموقف والشخص والإبداع والرفض والعروبة وايضاً حيفا. لكن، لماذا أحمد حسين وليس ناجي العلي أو غسان كنفاني أو منارات أخرى؟ لأن هؤلاء لم يتعرضوا للطمس والاغتيال الفكري والسياسي والثقافي كما وقع على أحمد حسين. ومن هنا يكون وضع هذا الكتاب المقارَن خدمة للرفض في معاركه المستدامة ضد التطبيع والتعاقد والهبوط وتثبيط الوعي.
في هذه السِنين العجاف التي طُبعت بأحدث مشاريع الثورة المضادة ضد العروبة وهو:
• مساهمة الغرب بمخطط الاشتراق الإرهابي
• ومساهمة التوابع العرب والمسلمين بإيديولوجيا الدين السياسي وبتجنيد وتمويل قوى بشرية إرهابية محلية.
وللتصدي لتسخير الدين السياسي ضد العروبة يصبح من الواجب والضمير توفير بعض ما كتب أحمد حسين كمساهمة في إعادة بناء الوعي النقدي وطبعاً العروبي وإعادة أو استعادة وعي الطبقات الشعبية إلى أُمتهنَ.
ما حصل ضد الوجود العربي قبل الإسلام من تغييب وطمس لصالح إنشاء تاريخ هجري ضد القومية العربية وضد العلمانية، هذا من ناحية نظرية، لكنه اقترن بمحايثة دموية ضحاياها ملايين الشهداء وعشرات ملايين المشردين العرب، العرب خاصة، واليوم تحديداً!
لذا، من قبيل الإخلاص والحياة والذكرى نحاول إيصال أحمد حسين للناس بعد أن حِيْلَ دون وصوله في حياته، هي محاولة إيصال الناس إليه.
إن احتلال الإعلام هو احتلال للوعي ومقدمة لاحتلال الأرض التي لم تُحتل بعد. مأساة أحمد حسين في قلةِ مِنْ فَهِمه منا بينما هم فهموه فطمسوه وما أكثر وسائلهم الإعلامية وأموالهم.
قد يتساءل البعض، طالما أحمد حسين عروبي إلى هذا الحد، فلماذا لم يحظ بما حظي به غيره سواء العروبي، الأقل عروبية وحتى الضد عروبي!
ولكن، هل كان منتظراً أن تُعنى بنتاج أحمد حسين أنظمة الدين السياسي أو قوى الدين السياسي من ممالك وإمارات هي إنسانياً وحضاريا وثقافة وراء العصر حتى لو كانت تحوز على ترليونات السيولة المالية التي بها اشترت اصحاب الجوائز بتقديم إبداعهم للاغتصاب ممَّن يقرأ بحوافره.
ولكن أحمد حسين ما كان ليطيق المرور ولو جواً من اقطار يحكمها هؤلاء. أما المأساة الموجعة فهي أن كثيرا من الأنظمة كانت قومية بالنوايا وقطرية في الأداء، كانت قطرية نصف قومية نصف علمانية نصف دينية وكُلِّياً أمنية. ومع ذلك كان لا بد من محوها فالثورة المضادة تُشبع عدوها موتاً.
جادل البعض بأن أحمد حسين ركز على المستوى الثقافي وآثر عدم الاشتباك مع الطبقي. ولكن نتاج أحمد حسين ضد الأنظمة العربية هو طبقي بامتياز ولكن دون استخدام الكلمات الصارخة والمبهرجة لأنها لا تجلس في بناء فكري فلسفي. ومن يقرأ احمد حسين بحذق وعقل مفتوح يجد فيه الموقف والطرح الذي نريد أي الموقف العروبي الماركسي فكرياً والرافض سياسياً. وبعد، هي ذا الوديعة بين ايديكم، تمعنوا وتموضعوا.
ولكن، ما الذي يبقى للقول غير أنك تلتقي مع أحمد حسين في أطروحات وتختلف معه في أخريات، ولكن وجوب النشر وحق الناس في الاطلاع على المواقف في أصلها يُجيز لنا بل ويدفعنا إلى تثبيت الموقف والفكرة كما هما.
وهذا ينسحب على من أوردنا ردود أو تعرُّض أحمد حسين لهم وعليهم، فقد وردت كما هي لديه، ونأمل من القارىء اللمَّاح أن ينظر لنشرهذه الاشتباكات كموقف نقدي أو خلافي وحق للكاتب وليس تعريضاً.
مسعد عربيد وعادل سماره
ملاحظة خاصة: لم يَتْرك لأحمد حسين، لا قمع الاحتلال، حيث فُصل كمعلم مدرسة وعاش متقشفاً حتى غياب الدواء، ولا الطمس القبيح المعمّم مع سبق الإصرار، غير هذا التشدد خوفاً على حيفا.
كنت كلما اتصلت به هاتفيا، فهو في المحتل 1948، يرد مباشرة بين الهزار والمرارة: “يعني بدك تقول إنك بتحبني!”. كان الاتصال مكلفاً طبقاً لدخلي ودخله، وهذا بالطبع قبل أن تُنعم علينا الإمبريالية ب “ال واتس آب”.
إتصل بي الرفيق رجا إغبارية أحد قياديي حركة أبناء البلد باكراً صباح يوم 23 آب 2017 قائلاً: “مات إحمد لِحسين وظلِّيت لحالك”. أيُّ خبر لا يليق إلا بصباح أسوَد! ولكن، لأجله ولأجل القادمين الواعدين/ات، كان هذا الكتاب كي أصير كثيراً –ع.س.).