الاديب : محمد نجار
كنت أرتشف كأس الشاي الذي أحضره لي نادل المقهى الواقف على باب المدينة منذ زمن، حيث أردت الارتياح من مشوار الطريق، حين دخلا إلى نفس المقهى وجلسا متقابلين على طاولة مقابلة مجاورة. أخرج أحدهما من كيسٍ ورقيٍ سندويشين من الفلافل، يبدو أنه اشتراها من مطعم قريب، أعطى أحدهما لمُقابِلُه، وبدأ يقضم الآخر بأسنانه ناظراً الى النادل ليحضر لهما الشاي الذي طلباه. يبدو أنهما تابعا حديثاً وحواراً كانا قد ابتدآه في مكان ما خارج المقهى، قال أحدهما الذي عرفت لاحقاً أن اسمه عادل، بصوت خفيض لكنه مسموع لإنسان على مسافة قريبة، وليس له شريك يلهي أذنيه بأحاديث أخرى مثلي:
ـ يا صديقي، يا أحمد، ليس من المنطق أن تدافع عن اعتقال أستاذ جامعي أو حتى أي كان، لا لسبب إلّا لأنه يمتلك وجهة نظر أخرى مُخالفة.
حين رد عليه أحمد وما زال يمضغ لقمته، دالقاً فوقها جرعة من الشاي لتساعدها على الانزلاق:
ـ إنني لا أدافع عن اعتقاله لامتلاكه وجهة نظر مخالفة، إنني…
قال عادل معلقاً مازحاً ومبتسماً:
ـ أنت تدافع عن اعتقاله كونه قال هذا الرأي وأخرجه إلى الملأ ، وليس لأنه يمتلكه فقط…
ـ لا ليس صحيحاً، أنا ضد الاعتقال على أساس الرأي، لكن الجميع يُحمِّل الزعيم مسؤولية هذا الاعتقال، وهذا به من الإجحاف الكثير.
قال وقد توقف للحظات عن القضم، ثم جرع جرعة من كاس شايه، حين قال عادل:
ـ يعني أزعجك كون الزعيم متهماً ولم يزعجك أن الرجل معتقل؟!
أربك السؤال أحمد قليلاً، وأكمل عادل متابعاً:
ـ منذ ساعة ويزيد وأنت تحاول تبرئة الزعيم، كأنه حمامة مكة أو ملاك من ملائكة السماء، كأنه يختلف عمّن حواليه ولا علاقة له بالأمر! أنا أظنه الأسوأ بينهم، ألم تسمعه يقول بأعلى صوته، أمام الجميع ومن على صفحة التلفاز: إذا رأيتم أحداً يريد تنفيذ عملية ضد الصهاينة ” طخوه”؟ إنه ربُّ البيت وكما يقول الشاعر:
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
قال أحمد مقاطعاً لكن بشيء من الغضب:
ـ قصدت القول أن الاعتقال ليس سياسياً. هكذا قال المسؤولون.
ـ وصدّقتهم؟ إذا لم يكن كذلك فما هو؟
أخرج أحمد سيجارة من علبته التي كان قد وضعها أمامه، بعدما جلس على طرف الكرسي مقترباً من زميله، وقال:
ـ لا تُكبِّر الأمر كثيراً، فالأمر ليس بهذا الحجم ولا بهذا الشكل أيضاً، وربما لا يستحق كل هذا النقاش.
قال عادل من جديد:
ـ جيد، لنأخذ الأمر ببساطة أكثر، أستاذ بهذا السن، تاريخه مشهود له بوطنيته، يحمل أفكاراً وطنية وله اقتراحات موحِّدة، يُعتقل كأنه خطر على الوضع الوطني العام، حين يسرح العملاء واللصوص ويمرحون، وتثور ثائرتك عندما أُحمِّل الزعيم والحكومة المسؤولية، ألا تشعر بأنك تستخف بعقلي؟!
قال أحمد كأنه يدافع عن نفسه وما زالت سيجارته تأكل نفسها بين أصابع كفه:
ـ لا تفهم من حديثي أنني مع اعتقاله، لكني لا أرى في الأمر ذاك الخطر الذي تراه.
رد عادل وقد صار صوته أعلى قليلاً من السابق:
ـ طبعاً، لذلك لم تعترض على أي اعتقال لأي مناضل حتى قبل هذا، برأيك لا يوجد معتقل يستحق حتى مجرد مثل هذا الحوار.
سكت قليلاً، بدا أنه لم يكتفِ بما قاله، فأكمل ما بين الغضب والإستغراب:
ـ أتعرف ما أستغربه؟ لماذا لا يتعاملون معنا بنفس اللين والطيبة والتسامح والود كما يتعاملون مع أعداء هذا الشعب من جيش ومستوطنين؟ إن أكثر ما يثير استغرابي أنهم يحتملون بساطير الاحتلال أكثر بكثيرٍ من احتمالهم لمجرد رأي من أي كان من أبناء شعبهم.
كان أحمد يستمع صامتاً غاضباً، وعادل يتابع حديثه كأنه لا يعنيه رأي أحمد أيضاً:
ـ ألا تريد أن تفتح عينيك يوماً لترى أن كل ما يتعلق بالإحتلال “مقدساً” بالنسبة لهم، وكل ما يتعلق بنا وبحقوقنا يمكن البحث فيه والمساومة عليه والتنازل عنه؟! السمكة ياعزيزي تتعفن من رأسها أولاً، وهؤلاء كلهم مخصيون ولم يعد فيهم أي أمل.
كان أحمد ينظر باندهاش الى عادل، وكان يعرف أن حواراته المتعددة معه، كانت تنتهي بأن يُحرج نفسه ولا يستطيع الدفاع عن آرائه الآيلة للسقوط كما وصفها ذات يوم صديق مشترك، لكنه قال رغم ذلك:
ـ والله يا أخي أنك تظلم الزعيم، صحيح أن جزءً مما قلته صحيح، لكن ليس كله، حتى أنني سمعت أنه يريد أن يبدأ تحقيقاً مع رجالات السلطة عن أموالهم التي تتكدس في حساباتهم البنكية، فالرجل ليس تماماً كما تصفه.
وتابع كأنه إلى موضوع آخر:
ـ إنه يرى في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أسوة حسنة، ألم يعزل الخليفة عمر خالد بن الوليد ويجرّد أبا هريرة من أمواله؟
قال عادل كأنه لا يريد أن يترك له رأياً صائباً:
ـ ما لنا ولأولئك؟ ليسأل أبناءه أولاً، فالأقربون أولى بالمعروف، كي لا أقول فليسأل نفسه.
قال أحمد مباشرة وكأنه حقق انتصاراً:
ـ لقد سأل…
ـ سأل مَنْ؟
تساءل عادل مستغرباً حين رد أحمد:
ـ سأل أحد أبنائه…
ـ ماذا سأله؟
سأل عادل بنفس النبرة المستهجنة، حين أجابه أحمد:
ـ سأله “مِنْ أين لك هذا”؟
ـ بماذا أجابه؟
سأل عادل من جديد وقد اقترب برأسه أكثر من أحمد كأنه يريد أن يستمع بكل حواسه، فأجاب أحمد:
ـ أجابه “هذا من فضل ربي”.
وسكت أحمد في الوقت الذي كان ينتظر عادل أن يكمل أحمد تخيلاته، وأمام سكوته المستمر سأل مجدداً:
ـ آه … وبعدين ؟
فقال أحمد:
ـ ولا قبلين…. أردت القول أن الرجل لا يترك الأمور على عواهنها، إنه يسأل ولا يسكت أبداً.
فقال عمر مُسْتَفَزّاً:
ـ تريد أن تقول أنه اكتفى بإجابة ابنه.
ـ نعم… وهل هناك إجابة أوفى من ذلك؟! “هذا من فضل ربي”.
ـ إجابة “مُفحمةٌ” فعلاً… لقد سأل وتلقى الإجابة الوافية… أتعرف؟ أنا أستاهل الضرب بالحذاء لأنني أجلس مع أمثالك.
استفزني الحديث كما استفزت عادل الإجابة، إستفزني كما لم أُستفز من قبل، لدرجة أنني لم أستمع لبقية تعليق عادل، ناديت النادل وأعطيته ثمن الشاي التي طلبته. كنت قد استرحت من مشوار الطريق بعد أن أنزلني باص الصليب فى مركز المدينة، حيث جلست لأستريح قليلاً في هذا المقهى بعد أن عدت من زيارة إبني القابع في سجون الإحتلال منذ سنوات مع الآلاف، ولم يُحاول الزعيم أن يُخرج منهم أحداً. أدركت حينها أكثر من أي وقت مضى، أن مثل هؤلاء لا يستطيعون تحرير دجاجة وليس آلاف السجناء، قمت مُخاطباً إبني بأعلى صوتي وكأنه يقف أمامي ويسمعني:
ـ لكم الله يا بُني… إعتمدوا على زنودكم وزنود مَنْ هم على شاكلتكم فقط، فالمخصي يظل مخصياً وفاقد الشيء لا يُعطيه. هؤلاء يابني كما قال الشاعر ذات يوم: “أسدٌ عليِّ وفي الحروب نعامة”.
أكملت طريقي مستعيناً بعكازتي ومصابيح الطريق لأصل بيتنا في المخيم القريب، الواقف على باب المدينة منتظراً العودة منذ عقود.