اخبار الوطناخبار دولة الاحتلالالراية الفلسطينيةالوطن العربيفن وثقافة

عندما يستعيد الثلج لونه- قصة قصيرة

استقبلني عامر، كعادته، في بيته استقبالاً يفيض ترحاباً، كمن يرى إنساناً عزيزاً عليه بعد زمن من الانقطاع والاشتياق، كيف لا ونحن كنا رفاق درب وسجن وحزب ومسيرة، مليئة بالمد والجزر والفرح والحزن. كلانا حمى الآخر بكل ما فيه من قوة في زمن الزنازين المقاوم، عندما كانت الفكرة شعلة، والقابض على الفكرة قابض على جمرة من نار، ستصل حتماً لنهاياتها الظافرة. عندما كانت الفكرة شمعة وبرنامج عمل ومنارة تضيء الطريق، مبدأ لا مجال للتشكيك في الإيمان به. حينما كانت القول الفصل والمذهب الذي لا يختلف عليه اثنان، عندما لم يكن للعذاب ولا للموت كبير اعتبار أمام الإصرار على نشر تلك المبادئ والأفكار وحماية الوطن.
فرّقتنا الطريق بعد أن جاء “أوسلو”، محمولاً على ظهور القيادة مربوطاً بجيدها مثل “رسن”، كما يُحب أن يقول. افترقنا عندما شرعنت بعض قيادات اليسار بدورها الدخول لمؤسسات السلطة القيادية، ووجد البعض منها أماكن عمل لهم بوظائف مدراء بفروعها المختلفة، مبررة ذلك بفقدان المال تارة وأخرى بحقوقهم من صندوق المنظمة. ارتفع صوته المندد بالخطوة، المحذِّر من الانزلاق في نفق أوسلو بغض النظر عن التبريرات، متهماً من وافق على تلك الوظائف بأنهم في خطوتهم الأولى نحو خيانة الأمانة التي وضعها الناس في أعناقهم. وأنّ الأمر لا يعدو سوى بداية المهادنة والدخول في القفص، فطعم المال يُغري بالمزيد.
قال:
ـ إن العبيد وحدهم الذين يدخلون القفص بأقدامهم، ومن دخل القفص ودّع الطيران إلى غير رجعة. لن يعود قادراً على التحليق نحو السماء حتى إن حمل زوجاً من الأجنحة بحجم أجنحة طائر الفينيق. ما فائدة الأجنحة إن لم تكن قادرة على حمل صاحبها فوق أجنحة الريح ومطباته وطرقاته المُتعرجة باتجاه الشمس؟!
تابع بكل مافيه من غضب وقال:
ـ أنتم تجردون الناس من أحلامها، تدفنوها في مزابل التاريخ وخلف الزمن. إنكم تضللونهم وتخدعونهم عن سبق إصرار، فضوء القمر هذا الذي تشيرون نحوه خادع كاذب، ليس سوى انعكاس لحظي عن الأصيل في بعض لحظات غيابه. الأصل هو ضوء الشمس الذي تُغيِّبون وتتجاهلون.
لمّا سأله البعض عن ماهية العمل في مثل هذه الظروف قال:
ـ “إن أبغض الحلال عند الله الطلاق”، لم يعد يربطنا بهم رابط، والمنظمة ثمنها دماء الشهداء وأنات الجرحى والأسرى، لم يرثها عن أبيه أحد. إنها حق من لا يخون هذه الدماء، إن كنتم ترون بأنفسكم أهلاً لذلك استعيدوها، وأي حديث آخر لا يستحق التوقف عنده.
أجاب بعض القادة حينئذٍ مُتجنبين النظر في أعماق عينيه:
ـ الطلاق؟
قال آخرون:
ـ لن نضرب الوحدة الوطنية بعرض الحائط.
قال وقد تشابك عنده الغضب مع العتب:
ـ ياحيف على الرجال ياحيف، أتستحمرونني وتستهينون بقدراتي العقلية إلى هذه الدرجة؟ عن أي منظمة ووحدة وطنية تتحدثون؟ إنهم حتى لم يستشيروكم بما وقعوا عليه. كما كانوا يمنعون المال عن المناضلين عند كل منعطف، هل بعد هذا تبقّى منها شيء؟
سكت قليلاً ثم أضاف:
ـ كي أسهّل عليكم الأمر، أنا أوافق على أمر الوظائف، شرط أن يتم تداوره بين الرفاق كل بضعة شهور، وألّا يأخذ صاحب المنصب أكثر من قيمة تفرغه وما يزيد يُحوَّلُ لمالية حزبه.
طبعاً لم يوافق أحد على اقتراحه، فزاد نقده لهم. قال:
ـ دخول القفص خطوة أولى لابتلاع اللسان، ومَنْ يبتلع لسانه سيُلْجم فعله لا محالة، ولن تُلعلع رصاصاته سوى في الأعراس.
وتابع حديثه المتلاحق:
ـ إنكم لن تجرؤوا على اصطياد عصفور، فما بالكم بجندي أو مستوطن؟!
ارتفع صوته وعلا، وتراجع حضوره وقَلَّ، غاب أو غُيِّب لا فرق فالنتيجة واحدة، استقال أو فُصل أو لم يعد أحد يتصل به، سيّان. قلنا إنه تساقط في الطريق، لأن الطريق طويل وشاق، وليس كل من يسير به يصل لنهايته. حلّلنا وتفلسفنا واخترعنا النظريات، وظلّ هو يُعتقل عند سلطة أوسلو بسبب طول لسانه، ثم إدارياً عند الاحتلال، ولم يعد يعنينا اعتقاله بشيء، ونسيناه في زحمة الأحداث. لكنه بدل أن يصمت تصاعدت انتقاداته وعلا صوته، صار اليسار أشد عرضة لانتقاداته، كذلك المتأسرلون الجدد كما سمّاهم. الأمر الذي جعلهم ينتدبونني لأضع له حداً، أو لأُخجِّله، لأُذكِّره بماضيه الذي يحاول تناسيه ورميه بعيداً خلف جدران الأوهام التي تحوم في رأسه، وكأن ذلك الماضي ليس منه ولا من صنع يديه. لأقول له أن مَنْ لا ماضي له ليس له مستقبل تحت هذه الشمس.
أخذت أستعيد الماضي معه ونحن نحتسي شاينا الباذخ الغارق برائحة النعناع حتى حدود البطر، وصحني الزيت والزعتر أمامنا، نغمس بهما قطعاً من خبز الطابون ليصل الزيت حتى نهاية عُقلة السبابة والوسطى والإبهام. نسكب خلفه جرعات من الشاي المُحلّى، فطعم الزعتر وزيت الزيتون المجبول بحلاوة الشاي لا يضاهيها شيء في هذا العالم كما ظل يقول.
صار يتحدث وكأنه يترنم بمعزوفة موسيقية، قال وهو يلوك الطعام ويصوغ العبارات، مذكرني بتلك الفترة التي كدت أنساها:
ـ في تلك الليلة الخريفية الباردة، أمّنت ظهري لصخرة في بطن الجبل، وشددت السماء المرصّع بالنجوم، بعيني، لحافاً، لكنه لم يحمني من برد ليل أواخر الخريف. كانت من بين ثقوب السماء تتسلل حبيبات الهواء الباردة، تتكاثف جداول من برد ينخر جسدي في كل الأماكن. لم ينفعني معطفي الهزيل في التصدي لها، فصرت ألتَّف بجلدي منتظراً قدوم شمس الصباح التي تأخرت كثيراً عن موعدها، كأنها تتآمر مع الليل على جسدي البارد.
في تلك الليلة قررت ألّا أعود لحضن الجبل مرة أخرى قبل اختفاء البرد، مع يقيني أنه لن يفعل مادام الفصل القادم يقف متحفزاً بالمرصاد للدخول، من كل الأماكن والأبواب والمساحات المشرعة. ليس للأمر علاقة بالرغبات، فالقرار كان واضحاً، كما تعلم، لا لبس فيه: “لا تُسلِّموا أنفسكم للعدو كالخراف”، وفي نفس الرسالة:” الوطن بحاجة لكل الطاقات، لا تهدروها في الزنازين وخلف القضبان”، فتوجب عليّ أن أجد البديل.
كنت أنت جديداً على الحزب، ولم تكن علاقتنا بهذا العمق، وكنت أنا قد أمضيت الكثير من الليالي موزعاً نفسي عند بعض الأصدقاء، فارضاً نفسي بشكل لا يخلو من بعض الوقاحة أحياناً، وأحياناً مستغلاً باب الصداقة أو طيبة الآخرين. في معظم الأحيان لم أمكث أكثر من ليلة أو بضع ليال، لأعاود السعي في مناكبها باحثاً عن مكان للمبيت. في مثل هذا الحال ينقضي الوقت في البحث ويغيب الوطن عن جدول الأعمال، فيصبح الأمر “كأنك يابو زيد ما غزيت”. ما أهمية وجودي إن لم أكن قادراً على متابعة المهام؟ وحملة الاعتقالات الأخيرة تلك لم تُبق لدي الكثير من الخيارات.
منذ دخول الفصل البارد القادم من وراء البحار سماء البلاد، تغير وجه المدينة بالكامل. الغيوم تأتي متكاثفة متجمعة، وسرعان ما تُبطئ المسير لتهيل ما في أحشائها من أمطار، لا تلبث أن تصطدم ببرد الهواء حتى تتحول إلى ثلوج قطنية بيضاء. ثمار القطن الذي نضج بفعل حرارة الصيف الذي مضى تراها تتطاير في فضاء هذا الشتاء دون رياح، تتراقص متحررة من الغيم الداكن لتفترش مساحات الحقول. ما أن تجد لها مكاناً على سطح الأرض، حتى تبدأ بالتراكم ثمرة فوق أخرى. تنمو وتكبر وتتسع مدىً، حشائش بيضاء مترامية تغطي السهل كله، مُخفية أسطح المنازل والعمارات والطرقات والسيارات المتوقفة على رصيف الشوارع في لحظات. تعتلي أغصان أشجار التين والزيتون، تغطي أشجار السرو واللوز والمشمش. تظل السماء حبلى بالغيوم، والغيوم حبلى بالثلوج كما كانت قبل الولادة الأخيرة، مستعدة لإنجاب التوائم الثلجية المتعددة، مليئة بالحَمل الواعد، كأنما لم تكتفِ بما جادت ولا تنوي المغادرة بعد.
تحملني وتسير بي قدماي، مُهشِّمة وجه الثلج الأبيض المتراكم، غائصة به إلى ما فوق الرسغ. أسير لاهثاً كأنني في رمال الصحراء، ممتلئاً حذائي بالثلج المتحول لمياهٍ من صقيع ما أن يتلامَس وحرارة قدميّ، ماشياً متنقلاً بين أطراف المدينة مبتعداً عن عيون دوريات الجيش، كي أجد لي غير السماء لحافاً.
كنت مطلوباً منذ مايزيد عن عام كامل، كان “جيش الدفاع” قد داهم مرات عدة كما في هذه المرة أيضاً، منزلي بعشرات الجنود، كأنه في معركة حامية الوطيس. حاصر البيت من كافة جوانبه قبل أن يقتحمه مفجراً بابه متعمداً زرع الرعب والخوف في البيت كله. وسط صراخ أطفالي المرعوبين من الجند وصوت الإنفجار، راح يكسر المقاعد والخزانة الواقفة بصمت بجانب الحائط، يمزق الفراش ويهيل ما في الثلاجة من طعام. من باب الإحتياط، كان يسكب حليب طفلي الرضيع على الأرض، ليتأكد أن عبوة الحليب لا تُخفي قنابل أو رصاص أو متفجرات! الغرابة كما قالت زوجتي، أنه يفعل هذا الأمر بالحليب في كل مداهمة، كأنه يؤكد كرهه للأطفال أو خوفه منهم، وربما يرى فيهم خطراً مستقبلياً يمسح كل ماضي كيانه العنصري وحاضره الفاشي. كنت قد أخذت احتياطاتي وغبت عن الأنظار قبل ذلك بكثير، لأنهم يعتقلون كل شيء وأي شيء. لا يستطيعون استيعاب كيف يجرؤ هؤلاء “الأغيار” على التمرد عليهم هم الأسياد؟ ألم يخلق الله العالمين جميعاً لخدمتهم؟ ألم يُسخِّر البشر جميعاً لخدمة شعب “يهوه” المختار؟
تجمّع البرد والثلج والضربات الأمنية المتتالية في أجواء المدينة وسائر الوطن، وسقت دماء مصطفى العكاوي أرض الزنازين، فارتقى شهيداً إلى السماء، وبكت مدينة القدس حباً وورداً وقمحاً وحياة. تحولت مدينة رام الله الوادعة الجميلة إلى مدينة غريبة لا يكاد يعرفها المرء، صارت أسطح عماراتها عيوناً متلصصة على الطرقات بعد أن اغتصب الجنود سطوحها، وخلف عماراتها أشباح وكمائن صيد متنقلة من دوريات الجيش. أضحت الشوارع البيضاء ملتبسة غامضة، والجنود استغلوا فقر الشوارع بالمشاة ليوقفوا ما طاب لهم من أُناس متلذذين بتعذيبهم بدعوى الأمن.
من مكان مسيري الحذر الموازي لشوارع مركز المدينة، كنت أرى دورية من الجيش، قد أوقفت عائلة بدعوى التفتيش والتدقيق، لعلّ الأب أو الأم أو إحدى الطفلتين مطلوب لقوات الأمن. بعد أن جاء الرد بالنفي عبر جهاز اللاسلكي، طلبوا من الأب الشاب أن يعانق الأرض الغارقة بالثلج والماء المتجمد ويداه خلف ظهره، مرة على بطنه ومرة على ظهره ليفتشوا جيوبه الأمامية والخلفية، فهم لا يستطيعون تفتيشه واقفاً! بين المرتين دقائق تمر وبكاء طفلتين ما بين الثالثة والخامسة لا ينقطع، وجسد ممدد فوق الثلج مرتعش، من البرد أو الخوف ربما، أو الأمرين معاً. تتفكك حبيبات الثلج لتتحول إلى ماء مثقل بالبرودة، والمرض ينغرس سكاكيناً حادة في جسد الأب الراجف، فلم يعد ل ” وجعلنا من الماء كل شيء حي” مكان، صار الماء عدواً قاتلاً دون جدال. الجسد الممدد فوق الأرض يمتص الماء مجبراً حتى الثمالة، فيرتج ويرتجف كأوراق شجرة داهمتها رياح عاتية مباغتة دون رحمة فانهالت متهاوية من علِ، قبل أن يُعيدوا له ولزوجته بطاقتيهما، ويسمحوا للعائلة بالمغادرة. كنت أقف على حافة الخطر أُراكم الحقد داخلي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً. أسناني تصطك مع بعضها البعض، والبرد ينخر عظامي ويلتهمها دون رحمة، فيصير السجن رحمة، ويصبح الاعتقال أمنية، والوصول إلى بيت الرفيق المقصود هدفاً سامياً، والحلم بكوب من الشاي، حتى دون الزيت والزعتر وخبز الطابون، من أحلام اليقظة، وإن شئتَ من مواصفات الجنة.
هذا الرفيق الذي كنت متوجهاً لبيته كان أنت. إتفقنا في اجتماعنا، إنْ كنت مازلت تذكر، على مباغتة دوريات الجيش بقنابلنا البدائية الحارقة. ظلّت تتزاحم بين جفون عينيّ دماء الشهيد مصطفى الطاهرة، وصورة الرجل الذي يرتجف برداً وعذاباً دون ذنب، وأصوات بكاء الطفلتين تسيل في أذنيّ حديداً مصهوراً. كانت تتراءى لي بساطيرهم وهي تعبث تكسيراً في خزائن بيتي، تداخل صوت بكاء الطفلتين الخائف ببكاء أطفالي المرعوب، كدت أرى أيديهم تسكب حليب أطفالي فوق ركام البيت مستهزئة مستهينة منتشية. بدا لي أن الزجاجة الحارقة يجب أن تكون قنبلة، ألقيتها فوق دورية الجيش المارة متسللة في ليل المدينة، وألقيت أنت زجاجتك أيضاً. كنا نرى دورية الجيش تحترق، وبدا لي أن الجنود هم أنفسهم الذين قتلوا الشهيد مصطفى في الزنازين، وهم الذين اقتحموا بيتي، وعبثوا بأثاثه، وهم أنفسهم من أبكوا الطفلتين الصغيرتين وعذّبوا أبويهما، وهم الذين قتلوا عمي وأجبروا أبي عندما كان صبياً وبقية القرية الوادعة على مغادرة بيوتهم. إنهم يتكررون نسخة كربونية لا تجديد فيها سوى فن القتل والذبح والعنصرية المتأصلة. كدت أظل أتفرج على النار المشتعلة فيها، وبدا لي أن الدفء صار يتدفق إلى جسدي. لم تعد تصطك أسناني ببعضها برداً، وقدماي قد جفّا واختفى الورم والتضخم من أصابعهما، وبدا لي أن الثلج قد بدأ يستعيد بياضه ولونه.
استعاد الثلج حيويته وجبروته فازداد ضرع الغيوم عطاءً، وكبر حجم ندفه وتكاثف ليشكل لنا باب حماية للاختفاء. كان لون الثلج أبيضاً، لكن ليس ذلك الأبيض الذي خبرناه منذ مجيء أوسلو. لم يكن أبيضاً مُزيفاً، كان ناصع الوجه نقياً غير متسخ وغير مُشوّه، فعادت مدينة رام الله جميلة كما أعرفها. توردّت خدودها وتفتحت عيونها وعادت لها الحياة، فاستعادت الأسواق المغلقة رونقها، والشوارع حركتها، والمساجد والكنائس رحيقها. ارتفع الآذان وقُرعت أجراس الكنائس عزفاً متلألئاً في الأجواء، تداخلت أصوات الباعة وزعيق الأطفال. تعالت أصوات العتابا والميجنا والدحية، ارتفعت الدلعونا وحضر “زريف الطول”، ومن مكان قريب هلّت “زفة” لعريس جديد، وتجمعن الصبايا في ليلة حناء لعروس واقفة على أبواب المدينة ماتزال تبتسم. أمام وقوفي العبثي متفرجاً، كانت يدك تشدني وتهزني بعنف:
ـ هيا بسرعة، أتريدهم أن يقتلونا؟
غادرنا المكان وسط بكاء رصاصهم المتفجر خلفنا، دون أن يصلنا أو تصيبنا شظاياه، واحتوتنا شوارع المدينة التي لم تعد غريبة، وغطت إنسحابنا كاملاً من المكان، كأنها توجهنا إلى طرق الحقول. كانت أصوات إعلانهم لمنع التجوّل في المدينة المرافقة لأصوات الرصاص لم تهدأ بعد، ونحن نصعد الجبل مبتعدين عن المكان.
في ركن بعيد في ثنايا ذاكرتي وخباياها، استحضرت بعض كلمات أبي قبل أن يغادرنا مبكراً إلى ربه يقول:
ـ إقضِ على البرد بالحركة، السكون هو الموت بعينه، ورؤية النار حتى البعيدة منها، تجعلك تشعر بالدفء.
أعاد لي عامر بقصته ذكريات وشجوناً، قلت قاطعاً حبل ذكرياته المتدفقة نبعاً من سفح جبل:
ـ ليس هذا ما أتى بي إليك، إنه شيء آخر، لسانك السليط علينا، لماذا كل هذا الحقد؟ أفقدت كل احترام لهذا التاريخ الذي تستعيده؟.
انزلقت قطعة الخبز من بين أصابعه إلى صحن الزعتر، كفت أسنانه عن المضغ، سكت طويلاً قبل أن يسكب في فمه ما تبقى من كأس شايه ليسهل لما في فمه طريق الوصول لمعدته. قال:
ـ الحقد؟! أنا أحقد عليكم؟ هل هناك من يحقد على نفسه؟ على أمله؟ ولماذا؟ ربما كان الأجدر بك أن تقول الحب وليس الحقد. أنتم الأمل الأخير إن استطعتم استئصال أورامكم السرطانية! إن أخرجتم المستفيدين الذين استطابوا الراحة في الزمن الصعب! إن استطعتم العمل، كما سبق، تحت الأرض! كنا باحتلال ونعمل سراً، فما بالك عندما صار للاحتلال أعوان وعيون ومنسقون أمنيون؟! صار له أذرع طويلة تلاحق وتعتقل وتُخبر وترشد وتكمم الأفواه وتقتل؟ أرأيت قيادة وطنية تبني المسالخ لمناضليها؟ تُحاكم الشهداًء والأسرى؟
سكت قليلاً وكاد يغتصب ابتسامة فخاف أن تبدو حمقاء كاذبة فعدل، وقال:
ـ قال المرحوم والدي:” أُحب من أبكاني وبكى عليَّ وليس من أضحكني وضحك عليَّ”.
قلت ومازلت مصراً على إيصال رسالة الرفاق له:
ـ على الأقل إنتقدهم هم، هم الذين فرطوا وليس نحن.
قال:
ـ “الضرب في الميت حرام” كما تعلم، رغم أن لساني لم يستثنهم أبداً. صحيح هم فرطوا لكن ما الذي فعلتموه أنتم لوقف هذا التفريط في الربع قرن الأخير؟ إنكم صرتم “مؤدبين” أكثر مما يجب، لا أعلم أخوفاً عل جرح مشاعرهم أم للحفاظ على مصالح بعض أفراد القيادة؟! وفي الحالتين النتيجة واحدة، وأنتم، في مثل هذه الحالة، لا تستحقون غير الشفقة.
كنا نتحدث بلغتين مختلفتين. أخرج من علبة سجائره واحدة وأشعلها، وتابع مفصلاً:
ـ هناك تفريط يومي لدى قيادات “أوسلو” كما تعرف، فلماذا معارضتكم خجولة هزيلة إلى هذه الدرجة؟ ما هي العوامل المشتركة التي ظلت تجمعكم بهم؟ لماذا مازلتم متشبثين بمواقعكم في مؤسسات السلطة والمنظمة القيادية؟ ما سر هذا “الحب العذري” معهم؟ ألم تتعلموا بعد أن الذي يخجل من عروسته لا يُنجب أطفالاً؟ لماذا لا ترفعوا صوتكم عالياً في وجههم؟ لماذا لم تؤدبوا لو مرة واحدة مسؤولاً أمنياً ممن يُنسقون مع آل صهيون، ممن يشون برفاقكم ويعتقلونهم ويعذبونهم؟ ما الذي جرى لكم؟ ألا تنظرون أين صرتم والى أين وصلتم؟
سحب من رأس سيجارته نفساً عميقاً، اقترب مني، وأطلق سهمين من عينيه لتخترقني وقال:
ـ أهذا هو الحزب الذي كانت دول العالم ترتعد منه وتحسب له ألف حساب؟ الذي ظل على الدوام حامياً ومدافعاً عن الوطن والرفاق والناس والقضية؟
عدل من جلسته وتابع سحب الأنفاس من رأس سيجارته وقال:
ـ ترى مَنْ الذي عليه إعادة النظر في مفرداته الوطنية؟!
دون مقدمات، كأنه يريد الخروج من الموضوع أو الابتعاد عنه، قال:
ـ لقد قاطعتني دون أن أكمل لك القصة.
وأكمل دون أن يسمع لي رداً:
ـ لقد كان هواء الجبل البارد نقياً، كان عَطِراً برائحة ما تبقّى من روائح الميرمية والشيح والزعتر إن كنت مازلت تذكر. كان يبتلع برده المتجمد كأنما يريد حمايتنا من مرض كامن في أزقة الهواء، يزيله ويخفيه بعيداً في أعماق الأرض، أو ينثره بعيداً فوق مساحات السحاب. كان لون الجبل أبيضاً ناصعاً كأجنحة ملائكة الجنة، إستعاده الجبل بعد مرور سنوات على ذلك، لون أبيض لا علاقة له بالرايات البيض. تخاله يشبه الرايات الحمر في زمن الحرب، أو لون حشائش الأرض الربيعية الخضراء الممتدة على طول السهول، وربما بلون الأرض الأسود المتمددة على ظهرها بانتظار الإخصاب. لكنها لا تتخصب من ثلج خصي مزيَّف اللون عاجز، بل من ثلوج ناصعة بيضاء استعادت لونها الأصيل الشامخ، مشرئبة العنق مرفوعة الجبين تحتضن الجبل والسهل كله. ثلج يحمي من رصاصهم المتطاير حقداً وعنفاً وانتقاماً وسفورا.
ظل الجيش يطاردنا ونحن نصعد عالياً عالياً من صخرة إلى أخرى، متسلقين السلاسل الحجرية محاذين أشجار الزيتون الراقصة بنا فرحاً. حينها فقط أدركت طريقي إلى الدفء… أأدركته أنت؟
قلت مغلوباً على أمري:
ـ يعني ما في فايدة؟
قال:
ـ بلى، عندما يستعيد الثلج لونه الأبيض، ويصير كالراية الحمراء وحشائش السهل الربيعية الخضراء ولون الأرض الأسود المستعدة للإخصاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى