صناعة الغوغاء
الكاتبة السوريه ناديا خوست
المصدر: Getty
ترك الثوار للتاريخ الإنساني صورهم في الذاكرة العامة، شامخين في المنافي وأمام رصاص الإعدام، تواكبهم قصائد الشعر الكبرى، يردد كلماتهم الفضاء، ويسحرون بكرامتهم الأجيال. يحفظ التاريخ السوري أنهم ماتوا أعزاء، حمل من بقي منهم مشروعهم، فأصبحوا رجال دولة كباراً، أو رموزاً إلى المثل الوطنية والأخلاق.
لم نعرف ثواراً دون منظومات فكرية، ومشاريع كبرى، وشعراء ينشدونها، ومفكرين يصوغون أهدافها، ويحملون الطموح الإنساني إلى النقاء الأخلاقي والعدالة الاجتماعية. في سياق هذا المسار الصعب والبرّاق أُنجزت خطوات التاريخ الكبرى. وعرف القرن العشرون، الذي عشنا في جزء منه، أحزاباً كبرى، وشخصيات سياسية وأدبية عملاقة، ورموزاً وطنية، وانحسر الغرب عن جزء من الأرض.
كيلا تتحقق نبوءة بريجينسكي بأن القرن الحادي والعشرين قرن الفقراء والشباب، صاغت مجموعة الشر الغربية، اختراق الدول والمنظمات والأحزاب. وحدثت الردة الكبرى في الربع الأخير من القرن العشرين. ثم شطّ منظرو القطب الغربي فرسموا تقليص سكان الكرة الأرضية، وابتكروا في مخابرهم البيولوجية الأوبئة التي تستطيع أن تبيد الشعوب المستهدفة. لكن إنجازهم الكبير كان تحويل الجماهير إلى غوغاء. ألبسوا الأنذال والمرتزقة والمجرمين ملابس الثوار، فتجلّوا كمتدينين يشرّعون ذبح من يخالفهم في المذهب والدين، وكهواة حرية يستندون إلى هيئات دولية، وكمسلحين منظّمين في عصابات مأجورة تُوهم بأنها جيش تحرير. وفّروا على جيوش الاحتلال النعوش التي تثير شعوبها، ومهما كلفوا من النفقات، كانوا مؤسسة ذات جدوى اقتصادية وسياسية.
كان المشروع الذي نشرته مجلة كيفونيم سنة 1982 تقسيم سورية والعراق إلى معازل إثنية وطائفية. اعتمدته السياسة الخارجية الأمريكية بخريطة الشرق الأوسط الكبير. وجنّد لتنفيذه الغزو، والحرب، وعصابات المرتزقة، والسياسيون، والمؤتمرات الصحفية الغربية، وتجمعات “المنشقين”، والحصار، والأرض المحروقة، والجوع. وسهّله الفساد الوقح، وأداء المؤسسات المدنية الغبي، التي لم ترتفع إلى مستوى المقاومة الوطنية العسكرية والاحتضان الشعبي. والنفور العام من سلوك المسؤولين المرفهين وبعدهم عن الشعب. ففتك بحياة السوريين اليومية الجوع وصعوبة التنقل، وكسر تجانسهم الاجتماعي الجميل.
تستغل أحداث السويداء هذا الواقع. ويستعاد فيها مشروع “تفكيك” سورية الذي أفشله الصمود السوري. مع تفصيل إضافي مهم: قطع طريق اتصال العراق بسورية. تستخدم في هذه الأحداث الغوغاء التي صُنّعت خلال الردة الكبرى في الربع الأخير من القرن العشرين لتفكيك المعسكر الاشتراكي. فتنفذ تعليمات جين شارب التي ثبتها كتابه “من الديكتاتورية إلى الديمقراطية”، وكانت دليل عمل لمنظمة “أتبور” اليوغوسلافية وشبيهاتها.
من التعليمات: “التحدي السياسي مثله مثل القدرات العسكرية، يمكن توظيفه في خدمة أنواع مختلفة من الأهداف لتفكيك النظام”.. هناك أكثر من مئتي أسلوب للعمل. منها “رفع الأعلام وعرض الألوان”، وارتداء الرموز، التصريحات، البيانات عن المظالم، الشعارات والرموز، اللاتعاون السياسي، البذاءة، المواكب الدينية، المقاطعة الاجتماعية. والعمل عالمياً لفرض الحصار الاقتصادي، ووضع تجارٍ على القائمة السوداء، والحظر التجاري الدولي، وتشكيل حكومة موازية.
وظف التدخل الإقليمي والصهيوغربي الغوغاء في قيادة أحداث السويداء، مفيداً من القرارات الوزارية الاستفزازية. فأنجزت: احتلال الفضاء العام، وشلّ عمل المؤسسات. وطلبت تطبيق القرار 2254 الذي ينص على التدخل الدولي في الشؤون السورية.
لكن توجسنا من قيادة الغوغاء جماهير وطنية ذات طلبات شرعية، لن يكدّر صورة ثوار جبل العرب الحقيقيين في الوجدان السوري، سلطان باشا الأطرش ورفاقه الذين تميزوا بشهامتهم وأخلاقهم ووطنيتهم. وورثتهم سمير قنطار، وعصام زهر الدين، والبطل الجولاني صدقي المقت.