سجن الحساسين – قصة قصيرة
من المجموعة القصصية " عندما صار الحمار ملكاً" ل
محمد نجار
ظلّ السجن كما كان منذ قرون، لم يتغير عليه الكثير رغم اختلاف الظروف، سجن كبير ممتد على مساحات واسعة جرداء، بعد أن اقتلعوا الأشجار منها وجرّدوا الأرض من اخضرار الحشائش. تملؤه أقفاص الحساسين، معلقة بقضبان حديدية من سقفه العالي، مثبتة في الحوائط من زواياها الأربع. زنازين من أقفاص صغيرة لا تتسع لأكثر من حسونين إلى ثلاثة حساسين، وبعضها للعزل التام لأصحاب الأحكام العالية الخطيرين على الأمن العام. حول كل قفص أسلاك شائكة كثيرة، تبدو مثل لفات تِبنٍ أو قشٍ هائلة لا يكاد يدخلها الهواء، لتُرغم مَنْ فيه على عدم التواصل مع الأقفاص الأخرى، ومن خلالها لا تُرى ألوان السماء.
تواصل الحساسين والبلابل واليمام، وكافة طيور المنطقة خطير على أمن الببغاوات في كافة الأرجاء، ويتجاوزها إلى الغربان والبوم في المحيط كله، وربما أبعد من ذلك بكثير. يحيط السجن أبراج عالية، يقف في كل زاوية منه برج، يتجاوز طوله حوائط السجن، مثل عملاق يجاوره قزم، يكشف ما في داخل السجن، ويطل على شوارعه المحاذية. يدور فوق سطح السجن المربع، جنود الغربان والبوم بمناقيرهم المقوَّسة ومخالبهم الحادّة ، يُكثِّفون أنظارهم من خلال سقف الأسلاك الشائكة، ليراقبوا ساحات السجن و”فورة” حساسينه الصغيرة، موجهين فوهات بنادقهم إلى كل ما يتحرك، ويثير الريبة داخله.
منذ قدوم البوم والغربان، إلى بلاد الحساسين الواسعة، مدعوة من ببغاوات المنطقة مرحب بها، إزداد عدد السجون وارتفعت حوائطها. الشيء الوحيد الذي تم تشييده في طول البلاد وعرضها هو السجون، سواء كان ذلك في مناطق الببغاوات منفردة أو في مناطق البوم، أو في مناطقهم المشتركة، المدعومة من ممالك الغربان فُرادى وجماعات. تم تحويل معظم المدارس الى سجون، وكذلك الكثير من المشافي والمسارح ودور السينما، وفي الكثير من الأحيان كانت تتم الاحتفالات بتشييدها كما لم يُحتفل بأي شيء آخر، فشعب الحساسين قوي ناشف العظم قليل المرض، يتعالج بالأحجية والحجابات، لذلك فهو لا يحتاج إلى المشافي ولا إلى المدارس وبقية دور الثقافة والمؤسسات.
في أحيانٍ كثيرة، كان يتم اقتلاع الأشجار وهدم المتنزهات، لترتفع مكانها السجون العالية، المكتوب على بابها: ” العصا لمن عصا” وتحتها عبارة أخرى مكتوبة بحروف مذهَّبة واضحة، وأكثر إتساعاً من العبارة التي سبقتها: ” لا تعصي ملكك، فتنال ذلّ الدنيا وعذاب الآخرة… فطاعة الملوك من طاعة الله”.
يتناوب الحراسة الغربان منذ طلوع الفجر حتى غياب شمس النهار، والبوم منذ غياب الشمس حتى ظهور شعاعات الفجر الأولى، كون قبائل الغربان تميزت بقوة الرؤى في النهار، وقبائل البوم تميزت بها ليلاً، تساعدهم الببغاوات المحليّة في الأوقات كلها.
قباءل الببغاوات والبوم كانت تتناوب وتتشارك حراسة الحساسين في تلك الليلة، وممالك الغربان تُشرف من بعيد وتقدّم لهما العون. الحسونان الأب والأم وثالثهما حسونهما الصغير داخل القفص، يراقبون الوقت الذي يمر ببطء شديد ثقيل، لم يره أي منهم في حياته قط، فحياة السجن لا تشبهها حياة. حالة من الصمت تكاد تملأ عليهم القفص كله، وتكاد لا تُبقي من الوقت متسعاً لحوار، لولا بعض أطراف الحديث الذي يتجاذبه أحدهم مع الآخر بين حين وحين. منذ أن تم اصطيادهم ثم حبسهم، زرعوا الرعب في صدور أفواج بقية الحساسين وأدموها بمناقيرهم الجارحة، وهجّروا معظمها من على أراضيها. منذ ذلك الوقت لم يعد يعرف الحسون الزوج كم من الوقت قد مر عليهم، وهم قابعون بؤساء غير قادرين على فعل شيء يذكر. غير بضع رسائل مُهربة من سجنه إلى رفاق الخارج، يساعدهم فيها في رسم بعض برامج وتفاصيل العمل، جراء تجربة طويلة في عمل سري مضني أمضاه في غارب السنين. ها هو حسّونه الصغير يكبر أمام عينيه، وهو يقف ومعه زوجته على أبواب طريق الشيخوخة، المتجهة حتماً إلى الموت. تمر عليه لحظات يكاد ييأس من كل شيء، لولا تلك الإرادة الصلبة التي طالما امتلكتها الحساسين والبلابل والدوري والكناري وطائر الكروان واليمام والحمام، رغم كل ما مر بها من مآسي داخل أوطانها نفسها، متصدين لها بأجسادهم الهزيلة.
نبع الذكريات المتفجر في عروقه يظل يسقي عقله بأحاديث الأجداد، تلك الأحاديث التي تشرَّبها عن كل شيء، عن الحياة والعمل والعشوش والأشجار والأمل، وها هو يسقيها لابنه الحسون الصغير. منذ أن نقر بطن البيضة بمنقاره الهش ليُفتتها ويخرج للحياة، وجد نفسه في سجن يحرمه من الحركة أو التنفس وحتى الطيران، ظلّ الحسون الصغير يسمع القصص ليعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، فالحسون الأب نفسه لم يعد يعرف بالضبط من أين له كل هذه الثقة على مغادرة القفص، والعودة الى الأشجار والطرقات وحياة البراري وفضاء الحرية. إنه لا يمتلك شيئاً سوى إرادة لم تهزمها سنوات السجن، ولم تُلغها ثقافة الذل والخنوع، التي تحاول ترويجها قبائل الغربان والبوم وأبواق الببغاوات في كامل السهل ومساحات الأشجار. حثّ رفيقة عمره له، لعب الدور الرئيس على التشبث بهذه الإرادة، التي سوف تكسر قوة السجان وعيدان الأقفاص القاسية وأسلاكها، التي لا يعرف لا كيف ولا من أين تتسلح بها، ولا كيف تعطيها كل هذا الزخم والصلابة والعنفوان. بجانب ذلك وصايا الأجداد، من تجارب الحساسين والبلابل والحمام واليمام وبقية أصناف الطيور المقيمة في كافة أرجاء المنطقة، فوق مساحات الأشجار المنتشرة وعلى مساحات الأرض القريبة والبعيدة، وفهمه وهضمه لتلك التجارب.
يتذكر الحسون الأب الآن عندما التقاها للمرة الأولى، كانت تطير في سرب غير سربه، لفت انتباهها بتغريده المميز والمستمر مع بقية الذكور، كي يحافظ على السرب ولا تتوه الحساسين وتتفرق، خاصة الصغيرة منها. التحق بسربه سربُها، فكما يقول المثل “الموت مع الجماعة رحمة”، فما بالك بالحياة؟! رآها هو في ذات اللحظة التي تداخلت بها حساسين السربين، وكانت ما تزال طائرة راكبة موجات الهواء وتتمايل مع نسماته. تُحلّق فاردة أجنحتها بكامل طولها، عائمة بجسدها فوق موجات الهواء، وريش جناحيها كشعر ناعم أملس يشاكس الهواء، ويتمنّع أمام محاولات اقتحاماته المتتالية، ورُويشات ذيلها تنفرد وتتكاثف وتتحرك ذات اليمين وذات الشمال لتساعدها في تغيير اتجاه حركتها المتكررة. جسدها المنساب الملون يحمله الجناحان، يقتحم جموع الهواء كفارس مقدام يعتلي صهوة حصان جامح لم ينفض عن جسده غبار المعركة بعد، شاقاً صفوف جيش الأعداء متقدما بحد السيف. رأى سهام عينيها السوداء المحاطة بدائرتين ذهبيتين، فأضحت مثل هدف داخل دائرة تقتحم عليه نشاطه وتربك ألحان تغريده. تمالك نفسه ولم يستسلم لحالة الإرباك هذه، وافتعل أنها بحركاتها تلك تريد أن تحيّيه، وما عليه بالتالي إلّا رد التحية بمثلها بل بأحسن منها، مطلقاً العنان لدقات قلبه لتكمل لحن غنائه.
في تلك اللحظة التي حط السربان على مجموعة من أشجار الفاكهة وبضع أشجار من الصبار، وشجيرات أشواك “إكليل المسيح”. قبل أن يُكمل رقصاته، ذهبت هي لشجيرات إكليل المسيح الشائكة على وجه التحديد، وكأنها تلمح له بأن الحياة بجانبها لن تكون سهلة، وأنّ عليه التفكير قبل أن يبدأ مغامرته معها. فحلاوة الحياة بقربها لن تخلو من المرارة، والراحة بين رويشاتها تمر عبر تذليل الصعاب. فهي تماماً مثل الشجيرات الشائكة هذه، لا تأخذ بذور طعامك منها دون آلام شوكها، وكادت تستحضر له ماقاله الشاعر الحكيم أبي الطيب المتنبي:
تريدين لقيان المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبرالنحل
لكنها عدلت، رمت نفسها في حضن موجة هواء هادئة، وتركت له أن يفهم الأمر وحده، قبل أن تتوقف وسط أشواك إكليل المسيح لتلتقط بذوراً من بذورها وتبتلعها. حتى إذا حام حولها فارداً أجنحته، مبرزاً ألوان جسده مزهواً بها ربما الى درجة الغرور، رفع رأسه واشرأب بعنقه عالياً ليظهر عليهما اللون الأبيض والأسود والأحمر القاني، فارداً جناحيه لترى كيف يغطيهما اللون البني الفاتح والأصفر اللامع، وفوقهما الأسود الليلي المرسوم كأنه بيديي خطاط مُحترف. تمتد الألوان ليغطي بهما ريشات ظهره، سرعان ما تقلّب أمامها على موجة هواء حارة أشعلتها الشمس برويّة منذ اختفى الصباح، ليريها اللون الأبيض الصافي كأشعة فجر هذا اليوم وقطرات نداه، قبل أن تذيبها شمس الصباح وتذهب. الأبيض المحاذي للون الفاتح من البني والمجاور له، المتطاول على طول بطنه والذي عمّق البياضَ في بياضِ أبيضهِ ابيضاضاً.
في هذه اللحظة بالذات، قفزت لتظهر له أنها ليست أقل منه ألواناً ونشاطاً وحيوية وجمالاً وحُسناً، وأن أنوثتها الشابة المتفلّتة طاغية فوق ذلك كله، تزيد جمالها جمالاً، وألوان ريشها بريقاً وجذباً، وتكاد ، لو تركت العنان لنفسها، أن توصلها إلى درجة الغرور.
حلّقت قليلاً في الهواء وتمايلت عل أجنحته، وحطت على شجرة صبار وتبعها هو أيضاً، طار حواليها، تبعها دون أن يقطع حبل طيرانها ولا وجهته، ووقف على “كوز” صبارٍ آخر مقابلها. غردت قليلاً، وغرد هو أكثر، تقافزت طائرة في الهواء، وتقافز خلفها، وسرعان ما ارتفع عالياً في السماء. بمنقاره يشق الهواء ويرتفع مثل صقر، ثم يتوقف، يتوقف في مكانه فجأة، وأطراف جناحيه تقبل أنفاس النسمات، كأنه معلق مشنوق يتدلى في الهواء دون حبل. أخذ يغرد ويغرد ويغرد، أطلق العنان لقلبه وحنجرته فأخرجتا ألواناً من التلاحين والأنغام لم يعرفها معشر الحساسين من قبل، ودقات قلبه تكمل اللحن وتدق وتدق وتدق مثل طبل، عازفة ألحاناً لم يسبق له أن تصور أن حنجرته تضمها وتحويها. غيّر اتجاه حركته بانقلابٍ فريد في الهواء، فأصبح الرأس المتسلح بمنقار صغير في الأسفل والذيل في الأعلى، ثم ضم الجناحين وأرجعهما لمكانهما حول جسده الفتي، ممدداً رجليه إلى الخلف لتصل إلى منتصف ذيله، وانطلق كالسهم من ذلك العلو يخترق مقاومة الهواء، تحت شهقات عجائز الحساسين اللواتي إعتقدن أنه فعلاً “من الحب ما قتل”. وصفته الببغاوات المحلية والمجاورة بالمغامر، لكنه لم يصغِ لكلام أحد، خاصة الببغاوات، لأنه كان يدرك في صميم نفسه أن الببغاوات لا تتكلم، لا تعرف أن تتحدث رغم افتعالها ذلك، لكنها تردد فقط ما يقوله الآخرون، وكاد يقول ما قاله سيد الشعراء أبو الطيب المتنبي ذاته:
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
قال في قريرة نفسه: “وهل هناك أعظم من الحب ليموت، إن كان سيموت، من أجله؟!”. هوى بجسده مثل نسر جارح إلى شجرة الفاكهة حيث كانت من على غصنها تنظر إليه، إنقض كنسر على فريسة، حتى إذا وصل على مقربة منها تقدم برجليه إلى الأمام متزلجاً بهما على صدر موجات الهواء، مخففاً من سرعته حتى توقف تماماً في بطن موجة هوائية حارة، مطلقاً العنان لجناحيه لتتراقصا متحركتان للأعلى والأسفل، حركات قصيرة سريعة متسارعة، دون أن يتوقف عن التغريد. مزغرداً زغروداتٍ طويلة متعالية، تتطاول وتتمدد وتتوسع وتتعالى، وهو يهز رأسه يميناً وشمالاً فارداً عضلات جناحيه، كاشفاً عن قوة جسده وفتوته. أكثر من تودده لها راقصاً قافزاً عارضاً مهاراته في الهواء، ثم تقافز من لوح صبار إلى آخر غير عابئ بالشوك الإبري الذي يملأ الشجيرات.
إبتسمت هي، واقتربت منه بكامل حسنها، بجمال ريشها المنفوش وألوانه الصافية، بجسدها الذي ما تزال تؤرجحه وتتراقص به أمام عينيه وسط كومة هواء كثيفة، حضرت خصّيصاً لمساعدتها. سكبت كل أنوثتها من طرف عينها، دفعة واحدة في قلب عينيه، إبتسمت من جديد، فارتبكت دقات قلبه وتلعثمت ابتساماته، فازداد لون ريشات عنقه الأحمر ورأسه إحمراراً، بعد أن تدفق لون دم شرايينه فوقها واندلق. لم يعد، أي منهما، يحس بوجود الحساسين الأخرى حواليه، ولا بالبلابل والحمام والدوري واليمام، ولا الكناري وطائر الكروان، ولا حتى بطائر الفر، القادم من هجرته مقيماً على شواطئ البحر، خصيصاً، باحثاً عن مصدر هذه التلاحين. عاد وارتفع عالياً في عين الشمس، وارتفعت هي أيضاً لملاقاته، وتقابلا تحت ظلال غيمتين ممتلئتين ظهرتا فجأة، على غير توقع، في المكان. نظرا الى عيني بعضهما، وشاهدا سنابل القمح وزهور الأقحوان في أقاصي كل بؤبؤة، وسرعان ما ارتفعت دقات القلب، كأنها تقف على أبواب الإنفجار، رغم أن هذه الأجساد الفتية ربما لا تحتمل مثل هذا الإنفجار. أطلقا ألحانهما من جديد، ورغم عنف صوت دق القلب الكبير، كانت تتفتح أزهار شمس وربيع وظلال، لعلاقة حب بين حسونين جميلين، أسرتهما لحظة عشق ستبقى فارقة في حياتهما. أخذت الطيور تبتسم وتتقافز فرحاً وطرباً، وصار هو يذهب ليلتقط حبات بذور ليطعمها ويسرق قُبلة، مدللاً على بذرة حب أخذت تتنامى وتكبر وتتفتح بسرعة مدهشة مع توالي الأيام.
لم يمر طويل وقت حتى قررا الزواج، وتشكل وفد من أهل الحسون الذكر ليطلب يد الحسون الأنثى، ترأس الوفد أكبر أعضاء الحساسين سناً، وتبرع الحساسين بالهدايا والطعام ليظهروا لعائلة الحسون العروس مدى جديتهم واهتمامهم بموضوع هذا الزواج. كذلك ليظهروا كرمهم وتكاثفهم ووحدتهم أيضاً، وليبينوا لبقية الطيور، إيمانهم بما وصل اليه تطور الحساسين، على مدى تاريخهم كله، بوحدانية الزواج، بعمق قناعتهم بالمساواة بين الذكور والإناث، وبجدية ابنهم في طلبه ومسعاه، وقالوا:
ـ مِثْلُنا لا “يمزح” في مثل هذه الأمور الجادة، وحسوننا والحمد لله قليل أمثاله، سواء في النشاط في طلب الرزق أو الشجاعة أو في مواجهة الصعاب. مجيئُنا لحد باب عشكم تقدير واعتراف لقيمتكم ومكانتكم أيضاً، وحسونكم الأنثى ستكون محل تقدير العائلة كلها، اطلبوا المهر والشبكة التي تريدون، لكن نرجو ألّا تردونا خائبين.
قالت عائلة الحسون الأنثى، رادة ومتجاوبةً مع كلمات أهل الحسون الذكر:
ـ نحن نتشرف بكم ونقدر قدومكم، ونحن لا نقبل مهراً ولا شبكة، إننا نعتقد أنّ ذلك ينتقص من قيمة ابنتنا ويتعامل معها كسلعة. إننا ننظر لهما كمتساوين في الحقوق والواجبات، قرار الزواج شأنهما وحدهما فقط دون ضغوط من أحد واملاءات. طائركم أظهر شجاعة مميزة، من خلال العرض الذي قدمه أمام الطيور جميعها، وليس أمام عوائل طائر الحسون فقط. لقد رأيناه جميعاً في لاحق الأيام أيضاً مظهراً حبه وعشقه، رأيناه وهو يجلب لها بضع حبات من بذور الأشواك ويضعه في فمها ، وليسرق في ذات الوقت بضع قبلات حب استحقها بجدارة. لقد رأيناه مغرداً مغنياً بأهازيج الحساسين ومواويلها، وكي لا نكون متواضعين فقط، بل نرى الأشياء والأمور كما هي، فللحق إبنتنا أيضاً لا تقل عن ابنكم حسناً وطيراناً وتغريداً، لقد قابلت التغريد بالتغريد، والحب بالحب، والقبلة بالقبلة والجمال والشباب والحيوية بمثلها.
قال كبير الوفد الضيف مؤكداً:
ـ صدقت، وتأكيدي هذا ليس من باب المجاملة، فكلنا رأى ما رأيت، ولا مجال هنا لقول ما ينفي ما رأته العيون.
قالت أم الحسون الأنثى من باب التباهي:
ـ لا تنسوا أيضاً أننا في داخل عائلتنا، نمتاز والحمدلله، بالصبر والتحمل والمثابرة مثل بقية الحساسين، وكافة طيور المنطقة في البلاد كلها، وفوق ذلك كله بالخصوبة، نعم الخصوبة، أنظروا بأنفسكم وسترون أنّ إناثنا قادرة على خلق الحياة مرة أو مرتين في نفس العام. كما أنها تستمر في العمل رغم رقودها على البيض، وتدافع عن عشوشها جناحاً بجناح وقوائم بقوائم مع ذكورها وبجانبهم، ولم تعتد على تركهم في النائبات وصعوبات الزمن وغدره.
نحن والحمدلله تجدنا أول ما تجدنا حاضرات جاهزات، عندما تعز الطيور ويتفرق شملها في أيام الشدة، عندما تصير للمواقف أثمان وتضحي الكلمات مِخرزاً والأفعال سيوفاً. تجدنا في لحظات الحقيقة حاملات لواءها، لا يوقفنا عن مناصرة الحق لومة لائم.
طال الحديث، وتعارفوا وتحاوروا وتضاحكوا وتمازحوا، وشربوا المياه وأكلوا الثمار، واتفقوا على تفاصيل الاحتفال بعقد القران لهذين الحسونين الشابين، وابتدأ الجميع بالتحضير للاحتفال.
جاء الموعد، وكانت الدعوات قد وجهت الى جميع الحساسين والطيور المُسالمة في المنطقة، من خلال التغاريد المنتشرة من حناجر الحساسين الشابة المتنقلة في كافة الأرجاء. أقبلت الحساسين من كافة أماكن تواجدها، جاءت من أعشاشها في المتنزهات العامة، من الحدائق، من البساتين والأراضي الزراعية، من المقالع الحجرية والكروم وأشجار الصبار. جاءت حاملة الأزهار وورود الحدائق، محملة ببذور الأشجار وبعض الحبوب التي تكفي لإطعام الضيوف المحتفلين جميعاً. حضرت وفود عديدة من بقية أنواع الطيور الأخرى وأشكالها المختلفة، وكانت المفاجأة كبيرة عندما جاءت الحساسين الأقارب من المتنزهات والصحاري المجاورة، ومن على مناطق شرق المتوسط وجنوبه أيضا، كما من مناطق عديدة مجاورة، للمباركة والمشاركة بهذه الفرحة وهذا الإحتفال. رقصوا وغنوا مغردين، وكان الغناء يكمل بعضه بعضاً، ورغم بعد المسافات التي أتى منها المحتفلون، إلا أنه لم يكن بينهم أي صوت نشاز، قد يُشوّه صوت ألحان الغناء المنساب جدولاً جميلاً متتابعاً، ملأ الأجواء فرحاً وحباً وابتسامات ربيع وحياة.
قبل أن تنتهي الإحتفالات كان الحسونان العروسان قد توجها الى شجرة فاكهة مثمرة، حيث ينتظرهما عشاً مؤقتاً لقضاء شهر العسل. أمضيا فيه أجمل الأوقات، فازداد حبهما حباً، وحياتهما قرباً، وتغريدهما تداخلاً وجمالاً وتكاملاً، وكانت تلك اللحظات هي التي وضعت اللبنة الأولى لحياة مشتركة صلبة لا يمكن هدم أسوارها القوية. ما أن انتهى شهر عسلهما، حتى عادا ليبنيا عشهما منقاراً بجانب منقار وجناحاً يعضد جناح، وعادت تغريداتهما تتوالى وتتعالى، منبهة بقية حساسين المنطقة بأن هناك بيتاً جديداً سوف يُبنى، وأن عائلة جديدة تتشكل، ومن الواجب على الجميع الحفاظ على “حق الجيرة”، وبدلاً من أن يُقال “كوم حجار ولا هالجار” فقد سألا عن “الجار قبل الدار”، فجاءتهما المساندة والمساعدة والترحيب والتبريك، مؤكدين لهما أن حق الجيرة لديهم هو حق لا يُناقش، كونه حقاً مقدساً.
إنه يتذكر الآن بعض ما تم بعد عرسهما في تلك الأيام، وهذا ما ظل يشرحه لابنه الحسون الصغير بالتفصيل. منذ تلك اللحظة التي بدأت تتشكل مجموعات بين الحساسين الذكور، يملؤها الحقد والتعصب وعمى البصيرة. مجموعات مدفوعة من طيور صحراوية مجاورة، متحالفة مع البوم والغربان، إستعار بعضها ألوان الحساسين ناطقين بلسانها. أُستُجلبت الببغاوات من أماكن متعددة، لتوْهم جهلاء الحساسين أنها من جلدتها، مُستغلين تشابه ألوانها مع ألوان الحساسين. لم يُدرك الكثير من الحساسين، أن “القطة” المتربصة بهم ليس من أجل جمال أصواتهم، بل من أجل لحومهم، وأنهم جاؤوا لهم بمن يشبههم لتسهيل خداعهم. مع ذلك، وكي لا تدفن الحساسين رؤوسها كالنعامة في التراب، فلا بد للتنويه أن قوي البصيرة لا يعوزه كثير ذكاء ليدرك، أن تغريد تلك الطيور كان تغريداً شاذاً، وألوانها باهتة ونظراتها حاقدة. لكن ما جعل بعضها ينخدع، كونها ركبت موجة سذاجة بعض الحساسين لتنتشر داخل مجتمعها وتحاول تصحيره. ما دام هناك سُذّج، فالنتيجة بشكل أو بآخر نوع من المأساة، لأنه “ما دام في السماء نسور هائمة، فهناك على الأرض جثث هامدة”، فالسذاجة وعمى الألوان، وتراكم الأخطاء لبعض قادة الحساسين، جعلت من عامة الحساسين تساهم، دون وعي أو إدراك، بتسريع ما يُخطط لها ويحاك، وانطبق عليها المأثور الشعبي “دجاجة حفرت على رأسها عفرت”. فاتبعت في البدء ما رددته الببغاوات من أقوال دون وعي، ولاحقاً ما خططته أسراب البوم والغراب، و”من يتبع البوم لن يصل إلّا للخراب”.
رمت الكثير من الحساسين بصيرتها من أعالي السماء إلى وديان سحيقة، لم تلحظ أو تُميّز أن هذه الطيور تأكل دون أن تُنتج أو تتعب، تجلس معظم أوقاتها تدعو وتستغفر، وكأن معشر الحساسين لم تفعل سوى الموبقات في حياتها! بدأت تبني المعابد المعتمة من الحجارة الثمينة، ولا أحد يعلم من أين أتت وبأي أموال ولا كيف أُوتي بها. لكن ما لفت الإنتباه أن معظم الداعين والمتعبدين في هذه المعابد كانوا، في أول الأمر، من اللصوص وقطاع الطرق، وقابلتهم بعض الحساسين بالقول الساذج القائل ” سبحان مُغير الأحوال”، وليس بكثير على الله هدايتهم. صارت اللصوص مع تقالب الأيام من علية القوم وأئمة معابده وكهنوته.
بدأوا يُغدقون الأموال على “نُخب” الحساسين وقادتها وعلمائها ومعلميها، وما أن قويت شوكتهم قليلاً حتى بدأوا يحاولون فرض قوانين لم تعرفها الحساسين في يوم من أيام وجودها. أخذوا يُفرّقون بين ذكور الحساسين وإناثهم، ثم حرّموا عمل الأنثى ومشاركتها في بناء العشوش وفي إحضار الطعام. ولمّا رأوا أن بعض الأناث إستحسنّ الراحة وسمعن أقوالهم، قالوا أن الأنثى تنقصها القوة والعضلات للعمل، كما ينقصها العقل للتفكير والتجريد. الحساسين التي لم تُعطِ وزناً للأمر في بدايته، ولم تدقق في داعميهم وعلاقاتهم وانتماءاتهم، وجدت نفسها في معركة داخلية، يحاول فيه بعض كهنتهم تحييد نصف مجتمع الحساسين، من خلال زج إناثه في أعشاشها وتحريم خروجها، وبذلك يكون أحد “جناحي” المجتمع كله قد قُطع من جذوره.
كما يقول المأثور الشعبي، “إن أول الرقص حنجلة”، فقد ابتدأ الأمر بتحريم ظهور ألوان ريشات الحساسين الإناث على الذكور من الحساسين في أول الأمر، ثم على ذكور”الطير من كل جنس”، ثم تحريم رؤيتها من ذكور قبائل الحيوان! لم يمر طويل وقت حتى حرّمت صوت تغريد إناث الحساسين واعتبرته “عورة” يحاسب عليه الإله يوم الحساب، وتحاسب عليه القوانين في الدنيا قبل ذلك أيضاً. تم تحريم ظهور مناقيرها وعيونها، وأوصت بتغطية رؤوسها والإقلال من خروجها، وإن اضطرت فعليها أن تغض من بصرها وتحني رؤوسها. بدا انحناء الرؤوس يجد له طريقاً عند بعض الحساسين، وصار مألوفاً رؤية طوابير من الحساسين طائرة محنية الرؤوس بعد أن كانت رؤوسهم مرفوعة دوماً وتعانق السماء.
أمام رفض معظم الحساسين وإناثها للقوانين الجديدة التي استهدفتهن، سرعان ما أخذت القيادة الجديدة وتحالفاتها مع البوم والغربان وببغاوات المنطقة، بتجميع قمامات البيض الفاسد، ورجم من لم يلتزمن بإرشاداتها وقوانينها الجديدة في المتنزهات والطرقات والأسواق، وحتى في أعشاشها على الأشجار، ثمّ تغادر هاربة كي لا يراها أحد.
إزدادت مطالب التحالف الجديد في بلاد الحساسين الواسعة، فتم تحويل ما سبق الى قوانين يُمنع تجاوزها ويعاقَب عليها. بدأت القوانين تزداد باضطراد، فتم تحريم ألوان الحساسين الذكور نفسها، لأن سلف الحساسين لم يكونوا ذوو ألوان كما زعموا، وأن الإبقاء على الألوان عند الذكور ليس إلّا تشبهاً بالإناث، فصارت الكثير من ذكور الحساسين تصبغ ريشها باللون الأسود. لم يمر طويل وقت حتى التحق بهم جهلة الحساسين ومنبوذوهم، كذلك إنتهازيوهم ومنتفعوهم، وكل الكسالى الذين لم يعملوا يوماً في حيواتهم، كما ومن تغيَّب وعيهم أيضاً.
بعد أن صبغوا ريشهم وتوشحوا بالسواد فوق سواد أفكار عقولهم، أخذوا يتسلحون بمخالب الحيوانات الكاسرة ومناقيرهم الحادة، وبدأوا بمحاولة فرض ألوان ريشهم الأسود على بقية مجتمع الحساسين كله، معتبرين أنها قوانين إلهية صالحة لكل زمان ومكان. وأنها أيضاً من قوانين الحساسين المتوارثة، المتناسبة مع عادات الحساسين ومناخات بلادهم على مر العصور. وأن ما تم تحسينه من القوانين السابقة، ليس لها مصداقية ولاقداسة لأنها قوانين وضعية، جاءتهم محملة على أجنحة الزنادقة والمرتدين من كُفّار الحساسين! صاروا يرجمون الإناث الرافضة للتخلي عن ألوان ريشها بالحجارة، وأحيانا بقص بضع ريشات من ريشهن المفرود متباهيات بألوانه. ما فتئوا أن تبنوا رسمياً قوانين الببغاوات والغربان التي دعمتهم بالعلف والمخالب والمناقير الحادة، ليفرضوا قوانينهم على كافة معشر الحساسين. صار مألوفاً رؤية هذه الطيور الكاسرة في سماء بلاد الحساسين وأراضيها، وصار هذا التحالف مكشوفاً دون مواربة، وكاد يتحول لأمر عادي، بشعارات لم تألفها الحساسين سابقاً. أقروا شعار أن الأرض والسماء والشجر والحجر هي ملك لله، لا يحق لأحد منعها عن الطيور الوافدة التي خلقها الله ورزقها من عنده، بصرف النظر عن أصل هذه الطيور وفصلها، وإن كانت من أهل البلاد أم طيوراً غازية.
ابتدأت هموم الحساسين ومشاكلها تتزايد، وأخذت تقسمهم حالات الجدل وتوسع الهوة بينهم، فصارت تتباين آراؤهم، وتحتد أكثر ساحات نقاشاتهم. بدأوا ينقسمون إلى فئات حسب اللون والنوع والجنس والإنتماء للمعبد، ما أدّى لإضعاف قوتهم وتراجع مكانتهم، بين أمم الحساسين المختلفة والطيور عموماً. ازدادت المحرمات أكثر وأكثر داخل مجتمعاتهم، فقدّسوا القدم اليمين ولعنوا الشمال، وفضّلوا العين اليمين على العين الشمال، والجناح اليمين على الجناح الشمال، وصار الذيل الأسود فخراً، فربوا ذيولهم وصبغوها بالسواد. سرعان ما كحّل ذكورهم العيون، واعتلى السلطات أصحاب الأذناب الطويلة، وكلما ازداد ذنب الحسون طولاً كلما علا قدراً وسلطة. بدأت ظاهرة التزاوج بين كهول الحساسين المقتدرة مع إناثه القاصرات، وابتدأت ظاهرة تعدد الزوجات، وصاروا يُحرّمون الرسوم والتغريد والغناء والدوح، ويحللون ويحرّضون على الحزن والبكاء. أحلوا العقاب للمخالفين في الرأي بدل الحوار والإقناع، وكلما ازدادوا تحريماً للاشياء، كلما ازدادت صداقتهم ودعمهم أكثر وأكثر مع قبائل الغربان والبوم، وكذلك من ببغاوات الشجر والحجر وصحاري المنطقة.
لم يتوقف باب التحريم يوماً، بل ازداد وتعمق، فصار الفصل بين طيور المنطقة كلها، فصلاً على أساس نوعها ولونها وحجمها ومساحة صوتها وألحان تغريدها، عدا عن شكلها وجنسها وماهية طعامها. ابتدأوا بتحريض كل نوع على آخر، فخلقوا عدواً وهمياً من كل نوع وحجم ولون، فصار صديق الأمس عدو اليوم، وأخ الأمس ورفيقه ألد عداوة لما سيأتي من أيام، ولم يعد يتحدث إلّا القليلون عن العدو الحقيقي من غربان وبوم وببغاوات ولابسي السواد.
كي يكتمل المشهد ويبدأ مسلسل الإقتتال بين طيور الحساسين، وبينها وبين الطيور الأخرى، إبتدأ طائر الغراب وطائر البوم وأدواتهما، بسياسة التجهيل ومسح التاريخ. فقاموا بحرق المكتبات العامة وكل ما تحويه من كتب، حيث أكدوا أن الأمية هي الطريق الأكيد إلى الجنة، على قاعدة ” ما أنا بقارئ”؟! فالجهل المقرون بالإيمان خير من العلم والفهم المقرون بالكفر، فمقياس حسنات وسيئات الحسون لن تكون بالتعليم أو الشهادات، وبالتأكيد لن تكون بالعمل.
كما تم تحريم الطبابة “لأن الأعمار بيد الله”، والعلاج ليس إلّا شكلاً من أشكال التدخل بما حدده الله من أعمار الطيور في اللوح المحفوظ. وتم إغلاق المسارح ودور السينما، وصارت الكتابة جريمة قد تُوصل صاحبها لحبل المشنقة، والقراءة “رجس من عمل الشيطان”. تم تحريم الرسم والتصوير، وصار النحت من أعظم الكبائر وأكثرها كلفة، كونه يخلق الأصنام ويحرض على عبادتها، كما أنه تشبه بخلق الخالق وهذا من أكثر الكبائر شركاً.
كذلك تم تقليص الإحتفالات والأعياد، حيث الأعياد تستوجب الفرح، والفرح يخلق التفاؤل، الأمر الذي لا يُرضي الله ولا ملائكته ولا كهنة المعابد، وبالتأكيد لن يرضي معشر البوم والغربان. فتم تحريم عيد الأم، كون الأم أنثى، وهي ناقصة عضل وعقل، والله لو أراد لها عيداً لأنزل لها نصاً، وهذا ليس على الله بكثير. كما تم وقف العمل بعيد الربيع، فلا يعقل الاحتفال بالربيع بحفنة ورود متخفية مطاردة لم تصلها سكاكينهم بعد، وببضعة أشجار ظلت مستعصية على الموت بجذور متمسكة بالصخور. تم تحريم عيد الحب، لأن الحب بدعة وضعية لا تتناسب ونصوص المعابد ولا توجيهات كهنتها، ولا يُعقل أن يكون هناك حب، لأن الحب يفترض أن يكون بين ذكر وأنثى، والأنثى خلقت للبيت ووضع البيض لا للحب والمساخر. كما أن الحب لا يصلح ولا يستقيم في مجتمع متعدد متنوع بألوان وأنواع مختلفة وُجدت لتكره وتفرّق لا لتُحب وتجمع. أما عيد رأس السنة فهذا فحش لا يمكن الحديث فيه أو عنه، خاصة أن من يحتفل به هم الفاسقون والزنادقة فقط من قبائل بعض أنواع الطيور المشركة أو المرتدة.
لذلك لن تكون هناك أعياد غير الأعياد الدينية، ويكون الإحتفال بها بالبكاء ولبس السواد والغم وتنكيس الأعلام، وبانتشار حلقات الإستغفار والتوبة والصلوات والتعبد، ليقبل الله من كامل مملكة الطيور توبتها، كطريق أكيد للوصول الى الفردوس. حيث هناك، وهناك فقط، الفرح والمرح والشجر والمطر والماء والورد والبحر والنهر والسهر والخمر والحب والعشق، وليس فى هذه الأرض الفانية.
صار طائر الغراب والبوم يصول ويجول في البلاد، ويحفر تحت الأشجار لتجف وتسقط، وينقل جذورها الى مناطقه وبلاده. تدريجياً أخذت مساحة الظلال في بلاد الحساسين تتقلص وتتناقص، ولهيب الشمس لا يجد من يصده ويتصدى له. تم نهب أعشاش الحساسين وأثاثها، وتكسير بيوض عائلاتها الرافضة لما يدور، وصاروا ينهبون المياه ويُحولون مجراها، ومنعوا حفر الآبار وإعادة زراعة الأشجار. قتلوا الحب ومنعوا المطر وقطفوا الورود وحملوها على أجنحة أسرابهم إلى بلدانهم البعيدة، تحت أعين الببغاوات في وضح النهار.
مع اختفاء الزهور وجفاف الشجر، ابتدأوا بالمجازر لتهجير طيور الحساسين، فحدائق الحساسين لا تليق بهم، بل بالطيور الجارحة فقط، وصار يتدحرج منطق القوة على فن التغريد وثقافة الحب والعمل والزواج الأحادي، فهجّروا عائلات كاملة من الطيور، وقتلوا ولاحقوا، واستجلبوا العربات الكبيره لدهس جرحاها، وعيون الغربان والبوم لملاحقة الحساسين الطائرة وتمزيقها بمناقيرها ومخالبها. صار الحزن يتعمق في النفوس، ويتجذر الغضب والنكد، وصارت الطيور “تتفشش” ببعضها البعض، فتقلصت مساحة العلاقات، وصار الحسون الأخ يكره أخاه، والحسون الأب يتشكك بابنه، وأصبح “الخِلّ الوفي” من عجائب الدنيا التي بالكاد توجد في عالم الحساسين الجديد. لم يعد قلب أخ على أخيه، ولا صديق على صديقه ولا قلب جارٍ على جار، وصار شعار”اللهم نفسي” يتفشى وينتشر بين الحساسين، وتمدد الشؤم في البلاد طولا وعرضاً، وصار التفاؤل من نوادر الحياة.
سنوات عديدة مرت على ذلك، فاكتشف الحسون الأب أنه تم تغيير قبلتهم، فصارت في منتصف الغرب بعد أن كانت تتوسط الشرق، وأنهم يعبدون إلهاً غير الإله الذي عبدوه. وأن هذا الإله الجديد إله لا يعرف الرحمة بصغير أو أنثى أو حسون كهل، ولا رأفة لديه بطير أو حيوان، وأن جل همه تمزيق مملكة الحساسين، وتفريق حساسينها وتمزيقها إلى فئات متصارعة متحاربة، لنقل خيرات مملكتها الى تلك البلاد البعيدة التي ظلت عالة على خيرات طيور الأرض وحيواناتها.
ظل الحسون الأب يتذكر أحداث عمره وعائلته، ويتقاسم شرح الأمر لابنه مع زوجته القابعة معه خلف القضبان، موضحَين له تاريخ “آل حسون” كما هو، إيجاباً وسلباً، وظلّت الحسون الأم تكرر دائماً وأبداً، أن تزوير التاريخ لن يخدم بناء المستقبل، وأن شعب الحساسين الممتد في كافة الأنحاء، لن يخدمه سوى فتح الماضي بكل وضوح، ونقد كل سيئاته، كما استخلاص العبر من دروسه. فقالت لابنها، ممسكة طرف الكلام من حنجرة زوجها:
ـ أمام كل ما حدث، رفض أبوك أن يظل جالساً “منتظراً الفرج”، وقرر ألا يُبقي منقاره مغلقاً وحنجرته صامتة، كما رفض أن تُقص جناحاه وتُكتّف رجلاه. صار الوقت ثميناً كما لم يكن من قبل، والزمن الذي يمر تسيل منه الدماء، ويهرب معه مستقبل أمة الحساسين جميعها. قرر أبوك أن يعمل، مهما كان هذا العمل بسيطاً، لكنه أفضل من السكون والسكوت والبكاء على أطلال البلاد ، “ففي الحركة بركة” كما يقولون. على قاعدة “أن البعوضة تُدمي مقلة الأسد”، صار يذهب في منتصف الليالي، يسقي ما تبقى من زهور وورود وبقايا أشجار لم يقتلعوها بعد، بمنقاره الصغير. ظلّ يحاول إخفاء الكتب عن عيونهم، ينقلها ورقة بعد أخرى إلى مغارات الجبال وكهوفها، وبدأ بالتحريض بكل ما في حنجرته من قوة على الأعداء كلهم، غرباء ومحليين، وصار يطبع البيانات ويكتب على ألواح الصبار وورق الدوالي محرضاً عليهم. صنع من أغصان الزيتون الرماح والسهام، وصار بمساعدة حساسين المحاجر، يُخزِّن الحجارة ليحارب بها أعداءنا. انضم إليه إخوتك وأخواتك أول الأمر، إخوتك الذين لم ترهم أبداً بحكم ولادتك في هذا السجن اللعين، ثم انضم أبناء الجيران. بدأت تتشكل الزنود التي ترفض ذل قبيلتي الغربان والبوم، كما ترفض خداع الببغاوات وتحريضها، التي حاولت تقسيم الحساسين ونجحت الى حدٍ بعيد، متعاونة مع حساسين باعت نفسها وضمائرها بأبخس الأثمان… المال.
ظل والدك ينشر خارطة بلاد الحساسين، ويحتفظ بمفاتيح قلاعها، يطبعها ويعلقها على الأشجار المثمرة والمحاجر والمتنزهات التي حولوها خراباً. وعلى شجيرات “إكليل المسيح الشائكة”. أصبح يُنظّم مجموعات الحساسين في مجموعات صغيرة لئلا يتم اكتشافها، فشكل مجموعات لإعادة قراءة التاريخ كما هو، ومجموعات أخرى لنشره وشرحه، وشكل مجموعات للكتابة على ألواح أشجار الصبار وأوراق التين، ومنشورات على ورق الدوالي يسهل إخفاؤها وحملها وتوزيعها. كما شكل مجموعات لسقاية الزهور كي لا تفنى وتموت وتندثر، ويندثر معها الحب والصفاء والبسمة والتفاؤل. فوق ذلك كله شكل مجموعات الحجارة والسهام، لأنه “لا يفل الحديد سوى الحديد” يابني، ونحن بأجنحتنا الصغيرة من الصعب أن نقاومهم، فكان لا بد من مواجهة مخالبهم الحادة ومناقيرهم المعكوفة القاطعة بسلاح ما، اهتدينا إليه من واقعنا، سهام من خشب أغصان أشجار الزيتون، وحجارة من حجارة محاجرنا، وقدرني الله أن أضم جناحيّ إلى جناحيّ أبيك وأساعده بقدر استطاعتي.
من أهم ما قمنا به يابني، الإتصال بحساسيننا التي أجبروهها على النزوح والهجرة، ونشرنا التفاؤل رغم كل السواد الليلي الذي نشروه وما زالوا ينشرونه حتى الآن. نحن أمة “بني حسون”، لسنا من الطيور المهاجرة التي لا وطن لها، أو التي تُبدِّل أوطانها في كل موسم وفصل، فلم نغادره يوماً إذا ما قسا علينا، بل كلما قسا علينا بطبيعته كلما تمسّكنا به أكثر وتكيفنا مع ظروفه، وازددنا حناناً نحوه، وإذا ما غادرناه قسراً زدنا له شوقاً وعشقاً، وازدادت مشاعرنا للقائه لهفة. نحن أمة مستقرة ثابتة عاملة منذ آلاف السنين، لا نتخلى عن متنزهاتنا أو أشجارنا أو مقالعنا، ولا عن بحرنا وجبالنا وسهولنا، فصحارينا نحبها كما سهولنا، ومياه بحرنا المالحة مثل أنهارنا وجداولنا العذبة، ونحب بعضنا وأهلنا وجيراننا، وعندما تحين لحظة الحقيقة تجدنا في الصفوف الأمامية للذود عنها كما نفعل الآن.
كما ذكرت لك، قمنا بنشر التفاؤل ورسمنا اللوحات بكل الألوان، وصار اللون الأسود مثل أي لون آخر لا ميزة له، وزرعنا ما استطعنا من ورود، وصارت، من جديد، وردة شقائق النعمان بلونه الأحمر تملأ الحقول، وكذلك النرجس والسوسن وعصاة الراعي والأقحوان والطيّون والجوري والزعفران والزنبق، حتى ملأنا السهول ألواناً وعطراً. صرنا نؤلف النكات ونكتب المسرح البيتي والأدب الساخر، وكتبنا الرواية والمقال والقصة الطويلة والقصيرة، وجمعنا شعرنا وزجلنا، كتبناه ووثقناه، وكذلك وثقنا أهازيجنا وتراثنا وقصصنا الشعبية وحكاياتنا، كما وثّقنا جرائمهم وقتلهم اليومي “لأمة بني حسون”، وأساليبهم الخادعة المخادعة في تحقيقات زنازين سجونهم مع شباب الحساسين. كذلك استخدمنا الحيوان في أدبنا كي نضللهم أكثر ونلتف على قوانينهم الجائرة.
لكن كما هناك حساسين تقدم دماءها من أجل قضيتها وانعتاق حساسينها، فهناك يابني أيضا حساسين تبيع قضيتها ودماء حساسينها، والفرق بينهما هو أنّ ما يحمله الصف الأول من عزة وكرامة يفتقدها الصف الثاني، الذي ظل مصراً على لبس ثوب الذل والعار والهوان. رغم أن الصف الآخر يمكن أن يخدعك حيناً لكنه لن يستطيع خداعك طيلة الأوقات، لذلك عملت عيون الغربان والبوم وتابعيهم من ببغاوات وحساسين خائنة، في الرقابة ومتابعة من يقوم بنشر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ويُفشل مخططاتهم، واستطاعوا كشف أبوك وكشفي. لحسن حظنا كنا حريصين في حركة طيراننا، نحوم لنكتشف آلية الحركة على أبواب عشنا، وصرنا نُموّه أشكالنا وألواننا، ولا نجلس في مكان واحد أكثر مما يجب. كما أكثرنا من المبيت بعيداً عن عشنا، وأصبحت حركتنا المكشوفة للضرورات فقط، وصار جلّ اهتمامنا باستمرار مواجهة كل أعداء بني حسون. صار عملنا سرّياً وبعيداً عن الأعين الخائنة، حتى أن إخوتك الصغار أودعناهم لدى أجدادك حتى يكتمل نموهم وتتصلّب عظام أجنحتهم وتصير قادرة على احتضان رويشاتهم، لتستطيع حملهم فوق موجات الهواء.
سكتت الحسون الأم قليلاً، طارت من مكانها إلى قضيب حديدي من قضبان قفص سجنهم، وكأنها ملت وقوفها في ذات المكان، وأكملت من جديد:
ـ كنا حريصَين على التمويه عند الاقتراب من عُشّنا كما شرحت لك، وذات يومٍ، والمساء قد دلق ظلمته فوق الأشجار، لم نستطع أن ندقق كما العادة، فعيوننا لم تستطع كشف المستور دائماً، لكن هاجساً قد تملكني في تلك اللحظات، هاجس يكاد يحملني ويرمي بي خارج العش، وللأنثى حواسها التي لا تُخطئ أبداً، قد تضل أحياناً، أو تنحرف، لكنها لا تخطئ. قلت لأبيك:
ـ أنا غير مرتاحة لهذه الليلة، قلبي يقبضني وكأنني على مرجل يغلي، ينقبض وينفرج ويدق بعنف متوتر غاضب.
قمت واقفة معلقة جناحي اليمين على ريشات جناحه الشمال، وكنا لا نترك ما يُثير الشكوك في أماكن تواجدنا المكشوفة، بما في ذلك عشنا نفسه، الأمر الذي سرّع في حركتنا. خرجنا وكمنا لرقابة ما حول العش قبل خروجنا، ثم تقافزنا من باب سري خلفي للعش، كنا قد فتحناه لظروف الطوارئ على غصن قريب. توقفنا من جديد، ثم قفزنا حول عش لزوج حساسين هرم كان على مسافة أمتار من مكاننا الأول، وتقافزنا إلى شجرة أخرى وثالثة ورابعة، واعتلينا قمة الشجرة الكثيفة، بحيث لا يهرب عشنا من بيابي عيوننا. ما هي إلّا لحظات، حتى كان العش محاصراً من كل الجوانب، وأنوار صفراء تغطي الشجرة برمتها، وببغاوان وأربع بومات يداهمون العش ويقتحمونه، يحطمون جدران العش، ينزعون بابه ويلقون به الى أسفل الشجرة، بعد أن انتزعوا عيدانه وكسروها ومزقوا محتوياته. كنا من مكاننا نرى الحقد الذي ملأُ قلوبهم، الكره الذي ظل يتدفق من عيونهم، وانتهت المداهمة، أو كما قال أحد شعراء البشر أحمد فؤاد نجم: “وانتهى التفتيش مفيش”. ورأينا طائر بوم وطائر غراب يركبون موجة هواء ويتوجهان لشجرة قريبة، يلتقط كل منهما جناحاً لطائر حسون خائن دلهم على “عشنا”، ألقيا به في عشنا سائلين:
ـ لقد أكدت لنا مجيئهما ووجودهما، أيمكن أن تخبرنا أين هم؟
قال وريشات ذيله الطويل ترتعش، ووسط حالة من الذهول والاستغراب والخوف:
ـ أُقسم أنني رأيتهما هنا ولم تفارق عيني العش أبداً.
ـ ماذا قلت؟ أتقسم؟!!! أنسيت أيها الوغد أننا من علمناكم الضحك على ذقون الأغبياء من بوابة الدين؟ أم أنك صدقت الكذب وآمنت به؟!!! حسابك ليس الآن على أية حال أيها التافه.
نقراه عدة نقرات في جناحيه وظهره، وأمرا حراستهما بأن يسجنوه شهراً عقاباً له، ليتعلم كيف يكون دقيقاً ومعلوماته أكيدة.
منذ تلك اللحظة أصبحنا نتعامل مع أنفسنا كمطاردين رسمياً، وما عدنا ننام في العش الذي بنيناه بأيدينا، وصارت حياتنا أصعب وأصعب، لكن عزاءنا أننا نعمل من أجل معشر الحساسين وحدائقهم وأشجارهم ومقالعهم.
مثل هذا العمل يتطلب الحركة، وكلما زادت الحركة زادت الأخطار، وقررنا سوياً عدم السكون، والغوص في البحر حتى بره الآمن. سنصعد الجبال مهما كان ارتفاعها وعلوها، حتى لو تقطعت أجنحتنا وتمزقت إرباً رويشاتنا. بقينا نصعد الجبال ونصعد ونصعد، ولم نظل في الأودية الواطئة وحفرها تحت أقدام الطيور الخائنة الخائبة، ولا الحيوانات الضالة الكاسرة التائهة، وواجهنا المخاطر باليقظة، وتابعنا العمل بالتفاؤل والجد والإصرار.
كنا مدركين أنك حتى لو كنت متفرجاً، فعليك أن تدفع الثمن، فهذا لن يُشكل لك بالضرورة حماية. إنّ الحياد في زمن الشدة جبن، والتفرج على الدماء النازفة جريمة، ورؤية الحديقة تتحطم أمام عينيك، وأنت تتشبث بالذرائع ولا تفعل شيئاً، خيانة، ونحن لم نكن يوماً جبناء أو مجرمين أو خونة. صحيح أن ما فعلناه بالمقارنة مع من قدموا الدماء بسيط وقليل، لكن “الصرارة تسند الصخرة” يابُني أيضاً.
قالت الحسون الأم شارحة لابنها، وكأنها حفظت قصيدة عن ظهر قلب، وتلقيها مُتخلّصة من عبءٍ ثقيلٍ ظلت تحمله منذ سنوات وسنوات، وتابعت من جديد:
ـ إستمر حالنا كمطاردَين سنوات، الأمر الذي جعلنا نعتاد الأمر رغم صعوبته، لكن كما قالوا “مَنْ لا يعمل لا يُخطئ”، وكان خطأُنا سبباً في وضعنا الذي تراه الآن.
عملنا مع الكثير من الحساسين في مرحلة المطاردة تلك، وكانت مهمة بعضهم تأمين الملاذ الآمن لنا لنستطيع الإستمرار في عطائنا، ولم نكن نعرف الكثير عمّن يعمل معنا غير أنهم مؤتمنون. كان آخرهم حسوناً يمتاز بالصوت العالي، تراه يسبح في الفضاء مثل صقر، غناؤه ذكرنا بالأيام الخوالي التي تميزت بالأهازيج الشعبية والمواويل، وكان يبدو أنه من أشد الحساسين تحمساً للعمل، لكنه لا يريد العمل إلّا في الأعمال الخطرة، نقل السهام المصنوعة من أغصان الزيتون وحجارة المقاليع. الأمر الذي جعلنا نتأنّى كوننا لا نعرفه كما ينبغي، أو كوننا لا نعرف عنه الكثير، وبدأنا نستفسر من الذين بعثوا به لمساعدتنا، لكنهم لم يكونوا يعرفون عنه أكثر مما نعرف. آثرنا التريث والتروي، وصرنا نسوق الحجج كي نحجب عنه الرؤى، ونبعده عن مكامن أسرارنا. لما يئس من الأمر ومنا، وضللناه حتى اعتقد أننا لا نعرف شيئاً مما يريد، لجأ للخيار الآخر.
جاءنا يوماً مع بدايات الظلام، على ورقة شجرة خروب تحاذي كرم زيتون قريب من مكان اعتاد رؤيتنا به، وعلى غير العادة تأخرنا قليلاً قبل أن نغادر إلى المبيت. كان يلهث لهاثاً متعباً وكأن أحداً يطارده، ولحظنا قدومه في غير موعد أو اتفاق، فقررنا المبيت في بطن الجبل على أن نذهب لبيتنا السري لاحقاً، وازدادت شكوكنا وقررنا الحذر أكثر، لكنه فاجأنا وقال:
ـ هيا أيها الحسونين بسرعة، حلّت ساعة الرحيل، يبدو أن مكانكما هذا قد تسللت أخباره وانكشف أمره، ووجودكما هنا حتى لساعات مملوءة بالخطر، ولقد أمّنت لكم مرقداً أكثر سرية وأشدّ أماناً.
فكرنا بسرعة تليق بلحظتنا تلك، وقدّرنا: إن كان “عميلاً” للببغاوات أو قبائل البوم والغربان، فلا فائدة من الهروب من المكان في تلك اللحظة، فربما يكونوا مختفين في أي مكان، وسيلقون القبض علينا، وإن لم يكن، فلن يضرنا اتباعه. إتخذنا قرارنا بسرعة، ورأينا أن اتباعه أقل خطورة من أي شيء آخر، فعلى الأقل لن نكشف أياً من أسرارنا لأحد؟ ركب موجات الهواء أمامنا وتبعناه، كان ظلام الليل قد بدأ يسكب نفسه فوق الأشجار وفي الفضاء، وصارت عيوننا تعجز عن رؤية الأشياء، وسرعان ما حط بجانب حوض ماء لنشرب ونرتاح قليلاً، قبل أن نُكمل طيراننا وتحملنا أجنحتنا إلى المجهول. ما أن حطت أرجلنا على الأرض، وقبل أن تهدأ أجنحتنا عن الحركة، كانت شباكهم قد انقضت علينا تعصر أجسادنا، ووجدنا أنفسنا بين أيدي البوم والغربان، تُكتفنا حبائل مصائدهم، وتعتصر عظامنا وريشاتنا بقوة، وكان هو خارج الشِباك، ينظر إلينا ويضحك، يشير إلينا ويخاطب غراباً قائلاً:
ـ إنهما في حوزتكم الآن، إعرفوا منهما ما عجزت عنه أنا… وذهب.
أدركنا في تلك اللحظة بالذات، أننا كنا ضحية “عصفور” خائن أحمق، باع نفسه بثمنٍ بخس، ومن يضع ثمناً لنفسه يابني، مهما كبر هذا الثمن يكون رخيصاً، ومَنْ يبع نفسه لا يمكنك الوثوق به، لأنه ببساطة يكون قد غادر طبائع الحساسين وتاريخها وموروثها وصار في خندق آخر.
إبتدأ التحقيق معنا من المكان الذي كان يريد معرفته “العصفور الخائن”، عن سهام الحساسين وحجارة المقالع، عن الحساسين الأشداء الذين يستخدمونها، أين هم ومن هم، من يصنع ومن ينقل ومن يُدرِّب؟ وكانت زنازين أقفاصهم قبراً لم نعتقد يوماً أننا سنخرج منها أحياءً أبداً. كان الموت المتربص معلقاً على كامل جدران الزنزانة، يهاجمنا مع كل غرزة مخلب حاد أو طعنة منقار معكوف، ومع غياب وعينا المتكرر جراء شراسة التعذيب، مع دمائنا النازفة وريشنا المنتوف، أوقفوا التحقيق معنا عندما كنا على مشارف الموت. هل رأيت يوماً حسونين عاريين من ريشهما؟!! هكذا كنا نحن الإثنان، مقتلعي الريش والأظافر، على حافة الموت، وما أن نفتح أعيننا حتى يختفي الموت من جديد، وما أن يختفي في زاوية الزنزانة حتى يظهر من جديد، وظل على حاله متربصاً طيلة شهور، صورونا عراة وهددوا فاشلين بنشر صورنا، إستخدموا ألواناً من التعذيب لم تخطر على بال أو خاطر. الآن أستطيع التأكيد يابني أن لدى الحسون طاقة كامنة لا يمكن هزيمتها، المهم التمسك بالفكرة والإرادة الصلبة، أن يكون لديك الدافع لتدافع وتصبر وتتحدى، وماذا يكون الحسون دون الفكرة؟! لذا هزمنا الموت المتربص في كل زوايا الزنزانة، في مخالب الطيور الغازية ومناقيرها المعكوفة القاتلة، في جبن بعض الحساسين والببغاوات الخائنة، فغادرالموت هارباً مهزوماً، أمام رؤيته تدفق نبع الحياة المتواصل من إرادة أجسامنا الهزيلة الضعيفة، تلك الإرادة التي لم تستعصِ على الموت فقط، بل هزمته أيضاً.
كان تعذيبهم أصعب من الموت وأقسى، كم تمنينا الموت ولم نجده، كانوا يوصلوننا إلى حافته ثم يسحبوننا من بين مخالبه. الميت لا يتحدث ولا يكشف أسراراً، هكذا كانوا يقولون، لهذا لم يقتلوننا. من الطبيعي أن يعتقدوا ذلك، بعكسنا نحن، فنحن نعتقد أن الحسون الحي، في التحقيق، فقط هو من لا يتحدث، يسكت في وقت السكوت، يحافظ على أسرار سربه وحدائقه ولا يكشفها، مهما عذبوه ونتّفوا ريشه وأدموا جلده أو كسروا عظمه، فالانتصار عليهم واجب بالحياة أولاً، وإن تعذّر ذلك، فبالموت الذي يغدو شكلاً من أشكال الحياة.
إنتهى التحقيق بعد شهور، وأمام سكوتنا المنتصر، صار لزاماً عليهم اختراع تهمة ما ليدخلوننا السجن بقرار من محاكمهم الصورية، فوجهوا لنا تهمتين سنظل نمارسهما مهما طال الزمن أم قصر، حيازتنا لريشنا الملوّن غير المصبوغ بالسواد الليلي، وتهمة الغناء والصدح والتغريد المتواصل الداعي للتفاؤل، ومثل هذه التهم تُغيبك في سجونهم سنوات وسنوات.
تناول الحسون الأب، مجدداً، الحديث من منقار زوجته، واستمر في الحديث وكأنهما قد حضّرا لأمر سرد حكايتهما منذ زمن، وقال:
ـ مرت سنوات على قصتنا هذه، لم نعد نعرف لها عدداً، وحركة حساسيننا التي لعبنا دوراً وساهمنا في وقوفها على ساقيها قد اشتد عودها. صارت تُرعب البوم والغربان، وإن كان بعض حساسيننا يصادقون هؤلاء الأعداء ويسامحونهم في دمائنا، كما ويطاردون معهم شباب الحساسين. يحاولون إسكات تغريداتهم، لكنهم لن ينجحوا ما دامت الحساسين تبيض وتفقس وتربي أجيالها على العزة والكرامة. ها هي أمك أمامك مثالاً، فنحن الحساسين كما البلابل “لا نحوك عشاً داخل القفص، كي لا نورثه العبودية”، فأمك حافظت على حمل البيضة التي أفقستك، من الخارج، من عشنا في زمن المطاردة، حافظت عليها لتتحدى موتهم بالحياة التي وهبتها لك، رغم كل محاولاتهم لقتل الحياة فينا وفيك.
سكت قليلاً، تلفّت حواليه محركاً رأسه في كل الإتجاهات، وعينيه تحاول التقاط أي تغيير في حركة حراس البوم والغربان، ونظر إلى زوجته نظرة فهمت منها أن تتابع اليقظة أكثر من المعتاد، وأكمل:
ـ إنك يابني ما تزال تسير في أزقة مراهقتك، وقريباً ستطير في فضاءات شبابك وطرقاته، وما زال أمامك الكثير لتصل عتبات الشيخوخة التي وصلناها نحن. عليك أن تدرك، أن الحياة ليست بطول السنين، بل بعدد البصمات التي تتركها فيها، فإما أن تعيش كما يتوجب العيش، برأس شامخة في السماء، أو تموت كما يتوجب الموت، لتظل بموتك حياً، أو أن تمر من الحياة خاضعاً ذليلاً، فتظل منبوذاً مقهوراً ورعديداً مشتوماً، وتموت دون أن يشعر بك أو يحس أحداً… واعلم أن الحساسين مثل البلابل، “لا تصدح إلا خارج القفص”.
بدأ الحسون الأب يتحدث خافضاً صوته وكأنه يخاف أن يسمعه أحد، واقترب من أذني ابنه وتابع الحديث:
ـ ستخرج من هنا هذا المساء، ستذهب إلى هذا العنوان، يجب أن تحفظ العنوان عن ظهر قلب، أن تُحلّق بحذر، فعيون البوم كما القطط، ترى أفضل في الظلام. في هذه الليلة عليك أن تُثبت أنك حسون من ظهر حسون، وأنك تنتمي لأمة الحساسين وليس الببغاوات، عليك الوصول لشجرة الصبار على ضفاف المدينة، ومن هناك ستأتي لتوصلك، البلابل واليمام، الى حيث يجب أن تصل.
ـ لكنني لا أعرف الطيران يا أبي…
ـ ماذا؟ لا تعرف الطيران؟! وهل هناك طائر لا يعرف الطيران؟! أهناك سمكة لا تعرف العوم؟! الأمر ببساطة شديدة أن ترمي نفسك في بحر الهواء، أن تركب موجاته، وستجد نفسك لا تريد النزول.
قالت أمه بعد أن اقتربت بدورها من أذنه الأخرى:
ـ إياك بعد وصولك إلى بر الأمان أن تكف لحظة عن التغريد…
اقترب الليل، كانت بقايا النهار تنسحب من أمامه بتراجع مدروس، وسارت أمه أمامه خطوتين وقفزة، أزاحت بعض الريشات اللواتي كن يُغطين زاوية القفص المثبت بقوة في حائط السجن، وكان الحائط يحاذي واد سحيق، وكانت الحسون الأم وزوجها قد حفرا حديد القفص على مدار سنوات بمنقاريهما الأعزلين الضعيفين، كما حفرا الحائط فاتحين خندقاً يوصل إلى أطراف باب الحرية.
كانت الأضواء الصفراء، قبل لحظات، قد أضاءت القفص، وانتهى غراب وبومة، كالعادة، من العدد داخل القفص كما في كل ليلة، ومباشرة أزاحت الحسون الأم الريشات عن الحفرة، دخلت أمام ابنها قبل أن يعيد زوجها الريشات وكأنهن بقايا ريش كبر وضعفت أوصاله فتساقط، يراقب المكان خوف انكشاف سرهما الذي بنياه على امتداد سنوات من الصبر، مشت أمامه زاحفة، حتى أوصلته الى نهاية النفق، إحتضنته، فرجاها أن يأتيان معه، فأخبرته قائلة:
ـ هروبنا جميعاً مستحيل، سيكتشفون أمرنا بعد دقائق، وسيرجعوننا قبل أن نصل إلى أي مكان، فأنت تعرف أنهم يظلوا طوال الليل يضيئون الأقفاص ليتأكدوا أن أحداً لم يفر، أما أنت فيمكنك ذلك. سنحاول التمويه على وجودك بريشنا الذي نتفناه خصيصاً لهذا الأمر، الآن هي اللحظة المناسبة، قبل تغيير الحراسة، فالغراب عدا عن تعبه المتراكم، فعيناه لا تساعداه على الرؤيا في مثل هذا الوقت، وعليك التحرك قبل استلام البوم حراسته الليلية، هيا تحرك…
كررت على مسامعه، وكأنها توصيه بأهم أمر في حياة الحساسين:
ـ بعد وصولك لبر الأمان، إياك أن تُغير لون ريشك، أو أن تكف عن التغريد…
وقذفت به على موجة هواء كان يحملها معه النهار المنسحب، ليصل هناك بعيداً، إلى مكان رفاقه وإخوته الحساسين، إلى بر الأمان مع خيوط فجر النهار القادم.