تحليل إجتماعي من منظور طبقي ماركسي….حول البورجوازية الصغيرة والمتوسطة
بقلم : غازي الصوراني
يقول عالم الاجتماع المصري الراحل د.عبد الباسط عبد المعطي: “البرجوازية الصغيرة هي أحد أهم المواقع الوسطى، التي ثار جدل واسع وممتد حول توصيفها، هل هي الشريح الدنيا من الرأسمالية، أم أنها تمثل موقعاً طبقياً له خصائصه النوعية والخاصة؟ ورغم أن المجال لا يتسع لمناقشة حاسمة في هذا الصدد، فإنها في مجملها تمثل الجماعات الأكثر تعقيداً وتداخلاً نظراً لتركيبتها المتناقضة . وهي تضم من بين ما تضم- العناصر الأكثر قدماً وتقليدية من مكونات الطبقة الوسطى فهي في بعض التحليلات “الطبقة التي تملك ، ولكن ملكيتها – سواء من حيث الإدارة أو الحجم – لا تفضي بها إلى حراك صاعد نحو شرائح الرأسمالية، كما أنها أيضاً الطبقة التي تخشى – خشية الموت- الهبوط إلى الطبقة العاملة. ولهذا فهي تتمسك حتى النهاية بتراث الملكية الفردية، ولكنها في صراع طبقي ضار مع الطبقات الأعلى، وفي الوقت نفسه – نتيجة لتناقضها البنيوي –تتضامن وتتحالف أحياناً مع الذين تخشى السقوط بينهم”.[9]
وعن المواقع الوسطى والتداخل مع البورجوازية الصغيرة، يقول د.عبدالباسط عبد المعطي: “تتألف الطبقة أو المواقع الوسطى من مجموعة متباينة من الأقسام والشرائح نتيجة لتباين مواقعها من علاقات الإنتاج. فهي تضم البرجوازية الصغيرة، التي تعد أحد مكونات المواقع الوسطى والتي كانت تضم صغار حائزي الأرض الزراعية، كما كانت تضم من يعملون لحسابهم ولا يستخدمون عملاً مأجوراً على نحو يسمح بتحقيق تراكم رأسمالي، كأصحاب الورش، والمصانع، والموظفين، المحلات العاملة في النشاطات الاقتصادية المختلفة”[10].
كما تضم أيضاً رجال العلم والثقافة وأصحاب المهن الفنية والمحامين والمحاسبين وغيرهم من أصحاب المهارات ، وتعيش كل هذه الفئات في تباينات دائمة بين بعضها البعض وفي داخل كل منها، كما تقسمها الانتماءات الدينية (بكل تلاوينها)، إلى جانب الإنتماءات والأحزاب الليبرالية واليسارية. [11]
هذا التوصيف ينطبق تماماً على الطبقة البورجوازية الصغيرة بكل شرائحها العليا والوسطى والدنيا، وما يفرزه هذا التكوين الثلاثي من اختلافات وتناقضات فيما بين اطرافه، كما هو الحال في التكوين الاجتماعي لهذه الطبقة البورجوازية الصغيرة في المجتمع الفلسطيني.
ان هذا الخلط والارباك المفاهيمي حول العلاقة بين البورجوازية المتوسطة والصغيرة ، نلحظه ايضا في كتاب د.جميل هلال -الطبقة الوسطى الفلسطينية- حيث يشير بوضوح إلى حالة الإرباك و”الخلط بين البورجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى عند مراجعة الأدبيات المعنية بالطبقة الوسطى”[12]، فيقول : “ويساهم في إرباك مفهوم الطبقة الوسطى الحديثة الخلط بين فئاتها فئات البرجوازية الصغيرة ( أو الطبقة الوسطى القديمة أو التقليدية) من أصحاب الدكاكين والحرفيين وصغار الفلاحين وأصحاب المشاريع الصغيرة” [13] (هنا لا يفرق د.هلال بين البرجوازية الصغيرة والمتوسطة).
أما استنتاج د.جميل هلال لسمات الطبقة الوسطى في الضفة الغربية، في قوله أن “الطبقة الوسطى الفلسطينية غير قادرة على حمل مشروع ليبرالي ديمقراطي، وهي لا تستطيع حسم الهوية السياسية للنظام السياسي الفلسطيني”[14]، فإنني أعتقد أن هذا الاستنتاج ينطبق تماماً على البورجوازية الصغيرة وليس على الطبقة الوسطى، لأن الطبقة الوسطى هي تاريخياً التي حملت المشروع الليبرالي في أوروبا بعد انتهاء مرحلة المانيفاكتوره ، وبداية تطلع البورجوازية الصاعدة آنذاك صوب القطيعة مع النظام الاقطاعي، استجابة لمقتضيات تطورها الانتاجي السلعي وتراكم رأسمالها وتبلورها كطبقة بورجوازية صاعدة استلهمت الأفكار الليبرالية ، كما عبر عنها الأب الروحي لليبرالية الاقتصادية آدم سميث، وكما عبر عنها أيضاً كبار المفكرين والفلاسفة في عصر النهضة وصولاً إلى انتصار الثورات البورجوازية في فرنسا 1789 وبقية أوروبا، ومن ثم تكريس وانتشار مفاهيم المساواة والحرية والفردية والمواطنة والديمقراطية وكافة المفاهيم الليبرالية التي استجابت وتطابقت مع شعار آدم سميث “دعه يعمل دعه يمر” .
لذلك ، أؤكد على وجهة نظري –القابلة للنقاش- بخصوص افتقار مجتمعنا الفلسطيني (والعربي) إلى وجود طبقة بورجوازية متوسطة تستند إلى قاعدة انتاجية رأسمالية محددة تمكنها من حمل مشروع فكري ليبرالي يتسجيب لطموحاتها البورجوازية أو الرأسمالية، ما يعني أن “عدم قدرة الطبقة الوسطى الفلسطينية” على حمل مشروع ليبرالي يعود بالدرجة الأساسية إلى عدم وجود هذه الطبقة لذاتها عموماً، وعدم وعيها لذاتها خصوصاً.
وعلى هذا الأساس ، فإنني أرى أن استنتاج د. جميل هلال ينطبق تماماً على الطبقة البورجوازية الصغيرة العاجزة فعلاً عن حمل مشروع ليبرالي ، لانها طبقة غير متجانسة ولا تمتلك قاعدة مادية للانتاج ، وبالتالي كان من الطبيعي أن تتوزع فكرياً وسياسياً على محاور دينية ويسارية وقومية ووطنية دون أي مشروع ليبرالي واضح المعالم.
أما حديث د.جميل هلال عن “الصراع بين أفكار ليبرالية تحديثية وأفكار محافظة دينية في أوساط الطبقة الوسطى في رام الله والبيرة حيث يتمركز مجموعة من المثقفين والمفكرين ، بما يميز الضفة الغربية عن قطاع غزة الذي لا توجد فيه جذور قوية للطبقة الوسطى بسبب ان أغلبية سكانه من اللاجئين”!!
وقبل أن أسجل ملاحظتي الحوارية النقدية على استنتاج د.هلال في الفقرة السابقة، أعيد التأكيد على تحليلي بالنسبة لاختلاف عملية أو مسيرة التطور الاجتماعي / الاقتصادي / والثقافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة تاريخياً، حيث نلاحظ نوعاً من التمايز الحضاري بينهما في البنية الفوقية المنتجة للفكر والثقافة في إطار النضال والصراع ضد الاحتلال، دون أن يعني ذلك اختلافاً جوهرياً في التطور الاجتماعي / الطبقي بينهما خصوصاً في مرحلة الاحتلال ما بعد عام 1967 إلى اليوم، أو أن أي منهما يشكل وحده اقليماً موحداً، وهنا أسجل ملاحظتي النقدية على حديث د.جميل هلال “عن عدم إمكانية وجود مجتمع فلسطيني (كتشكيلة اجتماعية سياسية مترابطة تقيم باقليم موحد) باستثناء ، ربما ، قطاع غزة” كما يقول[15] .
إذ أنني أرى غياب أي مستقبل للضفة أو لقطاع غزة بانفصال أي منهما عن الآخر ، واعتقد أن د.هلال يوافق تماماً على هذه الرؤية، لكن استنتاجه قد يستغل من أي حركة تسعى للانفراد بقطاع غزة بإسم الإمارة الدينية أو الدويلة الممسوخة.
أما بالنسبة لعدم وجود جذور قوية للطبقة الوسطى في قطاع غزة ، فهو استنتاج صحيح لا ينطبق على القطاع فحسب، بل أيضاً على الضفة الغربية ، إذ لا وجود للطبقة الوسطى فيهما، أما إذا كان د.هلال يقصد الطبقة البورجوازية الصغيرة (وهو لا يفرق بينهما في الكثير من فقرات كتابه)، فهي طبقة متجذرة في قطاع غزة كما هو الحال في الضفة الغربية، مع اختلاف سماتها بينهما من حيث التعاطي والانسجام مع التيار الديني بمساحة أكبر من التيارات الأخرى، اليسارية، والقومية، والوطنية الليبرالية .
وفيما يتعلق بحديث د.جميل هلال عن اللاجئين الذين يشكلون أغلبية السكان في قطاع غزة، كسبب من أسباب “عدم تجذر الطبقة الوسطى” ، فإنني أرى هنا خطأً منهجياً وتحليلياً وقع فيه د.هلال، لأن كلمة اللاجئين تقابل كلمة المواطنين حيث لا فرق بينهما في إطار التحليل الطبقي، رغم أن اللاجئين في القطاع يمثلون كتلة أو تجمع بشري يضم في إطاره ما لا يقل عن 65% من سكان قطاع غزة (1,14 مليون نسمة نهاية 2014) يشكلون مع إخوانهم المواطنين في غزة والضفة وكافة التجمعات والمخيمات ، خارطة طبقية تراتبية من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة وبورجوازية الكومبرادور والبورجوازية العقارية والمالية والطفيلية.. إلخ وهي أطر أو شرائح طبقية تجمع في صفوفها اللاجئ مع المواطن دون أي انفصام .
أما من ناحية “التوجهات المحافظة” في أوساط الطبقة البورجوازية الصغيرة في قطاع غزة (أو الوسطى حسب د.هلال) فهي انعكاس لطبيعة ما يمكن أن أسميه إعادة انتاج التخلف في القطاع بعد الانقسام في 14/6/2007 وسيطرة حركة حماس عليه، ومحاولتها الدؤوبة في نشر وتكريس الهوية الإسلاموية بديلاً للهوية الوطنية الديمقراطية ، إلى جانب كافة ممارساتها الإكراهية على الصعيد الاجتماعي التي عززت ذلك الطابع المحافظ أو الرجعي في الأوساط الاجتماعية في قطاع غزة عموماً وفي أوساط المرأة على وجه الخصوص، مع مراعاة طبيعة المرحلة التي عززت صعود مشهد الإسلام السياسي، وإعادة انتاج التخلف التراثي والاجتماعي والتراثي السلفي النقيض لمفاهيم الديمقراطية والوطنية والقومية والتقدم الحداثي، ليس في قطاع غزة فحسب، بل في العديد من مدن الضفة الغربية والشتات علاوة على الدور الخطير الذي تمارسه معظم الجامعات والكليات المتوسطة –في ظروف الانحطاط الاجتماعي والمأزق السياسي الراهن- في انتاج أفكار ومقولات التخلف الاجتماعي.
وفي مثل هذه الظروف، فإن قسماً كبيراً من البورجوازية الصغيرة لم يتحمل قسوتها ومرارتها ونتائجها السياسية والاجتماعية ، مما جعلهم يشعرون بحالة من الإغتراب، ظهرت بصورة واضحة بعد أقل من ثلاثة أعوام على قيام سلطة الحكم الذاتي 1994 عموماً، وبعد الانقسام خصوصاً، وتعززت في أوساطهم قيم اللامبالاة واليأس أو النفاق وتمجيد المصالح الشخصية والبحث عن أي مصدر للكسب السريع، مما دفع بالعديد منهم إلى ترك أحزابهم والذهاب إلى تحقيق المصالح الخاصة عبر العلاقة مع سلطة رام الله، أو حكومة غزة أو عبر منظمات NGO S أو مغادرة بعضهم إلى الهجرة للخارج هروباً من الواقع الذي لم يعد قادراً على احتماله بعد أن تفككت ونهارت الأفكار الوطنية التوحيدية في مجتمعنا.
إن تسجيلنا لهذه الملاحظات، شكل من الاجتهاد يستهدف العودة بمفهوم كل من “الطبقة الوسطى” و”البورجوازية الصغيرة” ووضعه في إطاره الصحيح، منعاً للإرباك في تحليلنا للأوضاع الاجتماعية ومكوناتها وأزمتها في بلادنا، خاصة وأن سمات “الطبقة الوسطى، كما أوردها العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع المشار اليهم ، هي نفسها سمات الطبقة البورجوازية الصغيرة من حيث الثقافة والوعي والتوصيف الطبقي، ومن حيث دورها في النشاط السياسي والاجتماعي بمختلف منطلقاته وأهدافه التقدمية والديمقراطية الليبرالية أو القومية الشوفنية أو الوطنية أو الدينية الرجعية وفق مصالحها التي لا ترتكز على قاعدة مادية انتاجية أو محددة المعالم بمقدار ما هي قاعدة تمثل إطاراً واسعاً فضفاضاً جاهزاً لتقديم خدماته وفق ما تمليه ظروف هذا الفرد أو تلك المجموعة من هذه الطبقة البورجوازية الصغيرة، ذلك ان تأرجحها وعدم ثباتها يشكل أحد العوامل الأساسية في حراكها السياسي والمجتمعي، باتجاه التقدم والديمقراطية أو باتجاه الانغلاق والتخلف السلفي الرجعي.
وفي هذا السياق نلاحظ بوضوح التركيبة القيادية والكادرية ذات المنشأ الطبقي البورجوازي الصغير لمعظم الأحزاب والفصائل والحركات السياسية في بلدان الوطن العربي ، مثالنا في فلسطين : حركة فتح / الجبهة الشعبية / الجبهة الديمقراطية / حزب الشعب / حركة حماس / الجهاد … إلخ ، آخذين بالاعتبار أن هذا المنشأ الطبقي المشترك، بسبب افتقار البورجوازية الصغيرة للبنية الفوقية المتجانسة أو الموحدة، كان –وسيظل- عاملاً رئيسياً في تعدد واختلاف المنطلقات الأيديولوجية والسياسية لأحزاب وحركات البورجوازية الصغيرة وتوزعها في الأطر الليبرالية، والأطر اليسارية والقومية، والوطنية، والدينية، وفق ظروف ومتغيرات الأوضاع العربية من حولنا، حيث نلاحظ كيف قامت هذه الطبقة بادوار –تاريخية وراهنة- بالغة الأهمية سواء في النضال السياسي ضد الاستعمار منذ اوائل القرن العشرين، وفي النضال الديمقراطي و”الصراع الطبقي” من جهة إلى جانب قيامها بأدوار مشبوهة لحساب الاستعمار والأنظمة العربية الرجعية، الأمر الذي يؤكد على أن هذه الطبقة شكلت –وما زالت- وعاءً واسعاً أسهم في تخريج كل أطياف وتلاوين التيارات السياسية والفكرية.
البورجوازية الصغيرة والطبقات والصراع الطبقي في المجتمع الفلسطيني:
إن التكوينات الاجتماعية أو “الطبقات” في الضفة والقطاع مازالت تجمع في طياتها خليطاً متنوعاً مازال بعيداً عن الاستقرار الطبقي المحدد المعالم، على سبيل المثال: الشرائح الفقيرة التي تفتقر إلى الوعي بوجودها أو بالظلم الطبقي الواقع عليها، فطالما تعيش آلاف العائلات عند خط الفقر أو دونه في ظروف اقتصادية واجتماعية تسودها كل أشكال المعاناة والحرمان، وطالما بقي التخلف أو النمط القديم مسيطرا، ولا تتوفر لهم الأطر السياسية والنقابية، المعبرة عن حقوقهم، كما لا تتوفر مقومات التجانس الفكري والسياسي أو الوعي المشترك بالظلم الواقع عليهم، فهم لا يشكلون طبقة بأي حال من الأحوال، فالطبقات الاجتماعية هي مجموعات من العاملين الاجتماعيين الذين يحددهم بشكل رئيسي انعكاس وعيهم وشعورهم المشترك بمصالحهم الطبقية المشتركة، لدورهم وموقعهم في مسار الإنتاج، أي في الميدان الاقتصادي بصورة أساسية .
والواقع أنه يجب أن لا نستنتج من الدور الرئيسي للموقع الاقتصادي أن هذا الموقع يكفي لتحديد الطبقات الاجتماعية، صحيح أن للعامل الاقتصادي، الدور الحاسم في نمط معين من الإنتاج وفي التشكل الاجتماعي، ولكن العامل السياسي والوعي بالمعاناة المشتركة، كشعور جماعي، إلى جانب عوامل ثقافية واجتماعية أخرى في إطار البنية الفوقية لها دور بالغ الأهمية، إذ أن الطبقات الاجتماعية تنطوي على ممارسات طبقية أو صراع طبقي، ولا تتبدى إلا في هذا الصراع والتناقض، وهو مضمون ما زال خافتا في مجتمعنا بحكم عوامل التناقض الرئيسي مع العدو، وعوامل التخلف الاجتماعي والاقتصادي، في سياق استمرار علاقة التبعية والحصار، علاوة على الصراع والانقسام الداخلي، وهي كلها عوامل ساهمت في عدم إنضاج الظرف الذاتي للتبلور الطبقي في بلادنا، ومن ثم انعدام أو حالة الضعف الشديدة لعملية الصراع الطبقي، بسبب استمرار تأثير الانقسامات الفئوية التي تخفي في طياتها المصالح الطبقية “فعلى الرغم من اهمية ومركزية التحليل الطبقي والصراع الطبقي في الفكر الاجتماعي والسياسي، فإن ظاهرة الصراع الطبقي تكاد تكون معدومة في معظم الأقطار العربية بصفة عامة. ويرجع ذلك إلى أن العلاقات الرأسية والتقسيمات الرأسية للمجتمع العربي (العائلة، القبيلة، الجماعات العرقية.. إلخ) تمثل نمط التفاعلات والعلاقات السائدة في هذه المجتمعات”[16].
دليلنا على ذلك ظهور –وهيمنة- عصبية الدم أو العلاقات العشائرية، في المجتمع الفلسطيني عموماً وفي قطاع غزة خصوصاً أثناء حالة الفلتان الأمني والصراع الدموي بين فتح وحماس، حيث لجأ القسم الأكبر من أبناء القطاع إلى الاحتماء بعصبية الدم في الحامولة أو العشيرة أو العائلة بعد أن فقدوا ثقتهم بدور النظام والقانون في توفير متطلبات حمايتهم بعد أن تفكك النظام ، وبعد ان تراجع مفهوم الوطن والوطنية لحساب مفهوم عصبية الدم التي أعيد انتاجها وتجديدها في الضفة والقطاع ، حيث خلقت مصادر القوة العشائرية إلى جانب مظاهر الفساد وتفكك النظام السياسي ، مناخاً مواتياً يفتح الطريق نحو مراكمة المال والثروات بصورة طفيلية أكبر بما لا يقاس مما توفره الثروة في إطار الانتاج الصناعي أو الزراعي ..إلخ كإطار موضوعي لمراكمة عوامل القوة بالمعنى الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي.
الشرائح البورجوازية الصغيرة (أو المتوسطة) في المجتمع الفلسطيني:
أؤكد هنا على حقيقة “عدم التجانس” داخل الطبقة البورجوازية الصغيرة في البلاد المتخلفة حيث تتوزع إلى شرائح تقليدية وشرائح حديثة. وشرائح ريفية، نلحظ ذلك بوضوح في الضفة بين الريف والمدينة كما نلحظه في تمايز الضفة عن غزة ، فبالرغم من وصف مجتمع الضفة إنه مجتمع ريفي إلا أنه ريفي متمدن، مقابل وصف مجتمع قطاع غزة انه مديني ، إلا أنه مدني متريف وأكثر تخلفاً بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي عن توأمه في الضفة الغربية، لكننا رغم ذلك نلاحظ حالة من التخلف الثقافي –بدرجات متفاوتة- بين الضفة والقطاع تعكس مدى هشاشة وضعف المفاهيم العقلانية والديمقراطية والمواطنة والحداثة انعكاساً للتطور الاقتصادي الاجتماعي الضعيف والتابع.
تشكل هذه الشرائح، المساحة الأوسع، والحجم الأكبر، في مجتمعنا الفلسطيني، فهي تتكون – كما سبق أن أوضحنا – من جموع صغار الحرفيين والموظفين المدنيين والعسكريين، وصغار التجار والمهنيين بكل انواعهم…الخ في الضفة والقطاع، مع مراعاة الخصائص والسمات التي ترتبط بهذه الطبقة في مجتمعنا، ونقصد بذلك المستوى المتدني من التطور الرأسمالي من جهة، والمستوى المتدني لحياة أو مستوى معيشة الغالبية العظمى لشرائحها، بما يؤثر في التركيب الاجتماعي عموما، وفي تركيب هذه الطبقة بصورة خاصة من جهة ثانية، لان طبيعة تكوينها وتشكلها، تتميز بضعف إنتاجيتها الناجم عن عدم امتلاك البورجوازية الصغيرة عموما، قاعدة اقتصادية منتجة، إذ أن هذه الطبقة – رغم ضخامة حجمها واتساعها، لا تسهم بأي دور مركزي أو مؤثر في إطار الطبقة أو السلطة المسيطرة، رغم انصياع القطاع الأكبر منها، للدفاع عن سياسات السلطة وحكومتيها(في رام الله أو غزة) والمجموعات المسيطرة فيها، وتفسير هذا الموقف يعود إلى أن السلطة هي رب العمل – المباشر وغير المباشر – للبورجوازية الصغيرة، بحكم ارتباطها الوثيق بالسوق المحلي بجانبيه العام والخاص، وبحكم الحرمان المادي والاضطهاد الاقتصادي والسياسي الواقع عليها، والناتج عن ضعفها وعدم تماسكها الداخلي وتذبذبها، إلى جانب عجز وقصور وفشل القوى الديمقراطية واليسارية في توعيتها وتحريضها وتنظيمها والتعبير عن تطلعاتها.
وإذا اخذنا بعين الاعتبار ان القطاع الحكومي سواء في حكومة السلطة / رام الله أو في حكومة حماس/غزة، يشكل 15.5% من إجمالي القوى العاملة ، وبنسبة 22% من القوى العاملة بالفعل (حوالي 200 ألف موظف)، يبين لنا التأثير السلبي الذي يحدثه هذا الواقع على دور ونشاط البورجوازية الصغيرة بسبب القيود القانونية والإدارية من ناحية والطبيعة المتذبذبة لهذه الطبقة وحرصها على مصالحها الخاصة من ناحية ثانية، بما يؤدي إلى شل وتعطيل القسم الاكبر من هذه الطبقة، من العاملين في الجهاز الحكومي، عن ممارسة دور سياسي رئيسي خارج إطار الحزبين الرئيسيين ارتباطاً بحكومة كل منهما.
وهنا تكمن انتهازية العديد من أفراد هذه الطبقة أو خوفها أو لامبالاتها، أو غير ذلك من المواقف السالبة التي تحكم ممارساتها السياسية في هذه المرحلة بالذات، لما تثيره من نوازع القلق والخوف والتردد والانتهازية في نفوس ووعي هذه الطبقة، إلى جانب حرص حكومتي رام الله وغزة على تأمين رواتب موظفيها لضمان ولائها السياسي، ادراكاً من الحكومتين أو من القطبين الرئيسيين “فتح وحماس” ان امتصاص هذا القدر من افراد البورجوازية الصغيرة، هدف ضروري، لتعزيز مكانة أي منهما السياسة، نظراً لوعي القطبين بأهمية دور هذه الطبقة التي تشكل غالبية السكان في الضفة والقطاع، إلى جانب اضعاف امكانات هؤلاء البورجوازيين الصغار في ممارسة دورهم في النضال الوطني والديمقراطي عموماً واضعاف وتهميش دورهم في ممارسة الحراك الديمقراطي والضغط الشعبي لانهاء الانقسام، ولكن يبدو ان تراكمات مظاهر القلق والإحباط واليأس في صفوف جماهير شعبنا عموماً، والبورجوازية الصغيرة خصوصاً ، عزز ضعف هذه الطبقة وحالة دون أداء دورها السياسي والديمقراطي المطلوب.
بالطبع إن إيقاظ الوعي الوطني والطبقي لدى البورجوازية الصغيرة في مدننا وقرانا ومخيماتنا أمر بالغ الأهمية بحد ذاته، لأن قطاعات كبيرة منها يمكن أن تظل عبر جدلية الاضطهاد والمصالح الحياتية، مرتهنة وخاضعة عموماً للقطبين المتصارعين حسب النفوذ الجيوسياسي لكل منها في الضفة أو قطاع غزة، وهو ما يدفعنا إلى الاهتمام بقضايا هذه الطبقة، وتفعيل دورها خاصةً وأن حجمها يصل إلى حوالي 60% من مجموع السكان في الضفة والقطاع أو حوالي 2,772 مليون نسمة يتوزعون على حوالي (554.4) ألف أسرة بواقع 5 أفراد (كمعدل متوسط) للأسرة الواحدة، وهو إطار أو تجمع غير متجانس من حيث الدخل أو مستوى المعيشة و ينقسم إلى ثلاثة شرائح أو فئات :
الفئة الأولى أو العليا من هذه الطبقة التي تملك دخلاً شهرياً يبدأ من 2500 دولار شهرياً ولا يتجاوز 5000 دولار، ولا تتجاوز نسبتها أكثر من 2,5 % أو ما يعادل (69,300) ألف نسمه من أصل المجموع التقديري للطبقة البورجوازية الصغيرة، وهذه النسبة تشمل المعيلين من الفئات العليا من أساتذة الجامعات والمحامين والمهندسين والصيادلة والأطباء ومسئولو ومدراء المراكز ومؤسسات المنظمات غير الحكومية ونواب المجلس التشريعي والتجار وأصحاب المشاغل المتوسطة وكبار الموظفين ( المدنيين مدير عام فما فوق، والعسكريين، عقيد وما فوق) والفلاحين الذين يملكون 20-50 دونم، وهذه الفئة منقسمة في ولائها بين حكومة رام الله أو حكومة غزة حسب ظروف وطبيعة العمل أو الانتماء السياسي أو ألمصلحي الانتهازي.
الفئة الثانية أو المتوسطة، التي تملك دخلا شهريا يبدأ من 1000 $ ولا يتجاوز 2500$ وتمثل تقريبا حوالي 5% من مجموع التعداد التقريبي للبورجوازية الصغيرة، وبالتالي فإن مجموع هذه الشريحة المتوسطة يبلغ 138.6 ألف نسمه، وتشمل المعيلين أو أصحاب الدخل من الفئات الوسطى من المهنيين والأكاديميين وأساتذة الجامعات والعاملين في المنظمات غير الحكومية وصغار التجار وأصحاب المشاغل الصغيرة والفلاحين المالكين من 5 – 20 دونم، والموظفين* المدنيين من درجة مدير إلى مدير عام، والعسكريين من رتبة مقدم إلى رتبة العقيد، وهي فئة يمكن أن تجد في المعارضة الديمقراطية ملاذاً لها .
الفئة الثالثة، أو الشريحة المتدنية / الفقيرة، من أسر البورجوازية الصغيرة، التي تملك دخلاً يبدأ من خط الفقر الوطني البالغ 2375 شيكل ( 580 دولار )[17] شهريا للأسرة ولا يتجاوز ألف دولار وتمثل هذه الشريحة 92,5 % ( حوالي (2,564) مليون نسمه) من مجموع هذه الطبقة، وهذه النسبة تشمل صغار الموظفين ورجال الشرطة والأمن وصغار المهنيين والحرفيين والباعة وهي شريحة أقرب –من ناحية موضوعية- إلى المعارضة اليسارية الديمقراطية، ومن الممكن أن تشكل – إذا ما تم الاهتمام السياسي والاجتماعي بقضاياها- وعاءا هاما لها إلى جانب “الطبقة” العاملة والفلاحين الفقراء، لكن عجز وضعف احزاب اليسار عزز مساحة الفراغ السياسي من ناحية وأسهم في تكريس يأس الجماهير الفقيرة ولجوئها إلى قوى التيار الديني والإسلام السياسي من ناحية ثانية.
وفي هذا السياق، من المفيد أن نشير هنا إلى أنه “إذا كانت الأرقام الخاصة بفروقات معدل الدخل للفئات الاجتماعية المختلفة، تساعد على اثبات واقع وجود مجموعات ذات مصالح متشابهة فيما بين الواحدة منها، ومختلفة مع مصالح مجموعات أخرى بدرجات متفاوتة، وتتواجد على مستويات مختلفة من حيث علاقتها بالنظام الاجتماعي الاقتصادي وحصتها من توزيع الدخل، فإن هذا وحده لا يكفي لتلمس الدور الاجتماعي الذي تضطلع به كل فئة أو طبقة منها، والسياسة التي تدعو لها، والظروف والعوامل العائدة لطبيعة تركيبها ونشاتها، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي تسهم في نهاية المطاف بمقادير متفاوتة الاهمية في تحديد السمات ومعالم التركيب الطبقي للمجتمع والمواقف العامة لمختلف الفئات والطبقات[18]”.
وبناء عليه فإننا، ندرك بكل موضوعية ووعي، أن استمرار تطور العلاقات الاجتماعية في بلادنا على صورتها المشوهه الراهنة، هو أمر بقدر ما يتعارض مع قوانين الحياة ومتغيراتها وتراكماتها الدافعة صوب الارتقاء والتقدم، يتعارض أيضا مع نضال شعبنا وتضحياته الغالية في صراعه الطويل مع العدو الصهيوني، من أجل تحقيق أهدافه في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، الأمر الذي يستوجب استنهاض كل القوى الوطنية الديمقراطية، كضرورة موضوعية ملحة، حتى لا يصبح المستقبل كأنه ” قدر محتوم ” نساق إليه من نظام العولمة الأمريكي الصهيوني.
فبالرغم من المتغيرات التي أصابت البنية الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية طوال الفترة الممتدة منذ عام 1967 حتى اليوم، إلا أن هذه التحولات لم تستطع تجاوز أو إلغاء علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وشبه الرأسمالية القائمة بل عززتها وأبقت عليها، بفعل عوامل خارجية تتمثل في السياسات الإسرائيلية تجاه الاقتصاد الفلسطيني من ناحية وعوامل داخلية فلسطينية تتمثل في مجموعات المصالح الطبقية التقليدية والمستحدثة الطفيلية الحريصة على إبقاء العلاقات القديمة وعدم تجاوزها (في المنشآت الصناعية شبه العائلية عموماً، والإنتاج العائلي في الزراعة ونمط الإنتاج السلعي الصغير المنتشر بكثرة في الضفة والقطاع عموماً وفي المناطق الريفية خصوصاً … الخ) وبالتالي فإن النمط السائد غالباً هو نمط رأسمالي تابع ومشوه تتداخل فيه الأنماط القديمة ضمن صيغة من التعايش والتعاون والصراع، وفي هذا الجانب نشير إلى أن تعدد أنماط الإنتاج قد يتجسد في بعض القطاعات الاقتصادية أكثر من غيرها، وفي هذا السياق يمكن أن يوصف النمط السائد عندنا بأنه نمط محكوم بآليات “رأسمالية المحاسيب” ارتباطاً بالتحالف بين الصفوة السياسية والبيروقراطية ورجال الأعمال والمال والكومبرادور في الضفة والقطاع، وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نطلق على هذا النمط انه نمط رأسمالي طفيلي، لكنه في كل الأحوال ومهما كانت التسمية، فهو نمط تابع ومتخلف، ما يعني بقاء التطور الاقتصادي والاجتماعي/الطبقي محتجزاً بسبب هذه العوامل الخارجية والداخلية ذات المصلحة المشتركة في إبقاء حالة التطور المحتجز في بلادنا ودور هذا التحالف الطبقي في تفكيك المجتمع السياسي الفلسطيني وإعاقة توليد آليات المجتمع المدني الديمقراطي، الأمر الذي يقتضي العمل على كسر هذا التحالف وإزاحة كل هذه العوامل ورموزها وشخوصها صوب إعادة الوحدة السياسية المجتمعية بين الضفة والقطاع وفق الأسس والثوابت الوطنية والديمقراطية، وفق أسس اقتصادية تنموية تستهدف تحقيق مقدمات الصمود الوطني والمقاومة والنضال بكل أشكاله على طريق التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
احتمالات المستقبل:
يمكن القول أن الحالة الفلسطينية اليوم، انتقلت بالفعل من أرضية النضال الوطني والأهداف الكبرى من أجل التحرير والعودة والاستقلال ، إلى أرضية الخضوع والمساومة على حقوق شعبنا التاريخية، من ثم الهبوط بتلك الأهداف والحقوق بذريعة التوصل إلى إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عبر التفاوض العبثي مع دولة العدو الصهيوني، على الرغم من إدراك تلك القيادة لمواقف الدولة الصهيونية عبر لاءاتها الخمس: لا لحق العودة، لا لإزالة الاستيطان، لا للإنسحاب الكامل من الضفة الغربية، لا للقدس عاصمة للفلسطينيين، لا للدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، لكن القيادة الفلسطينية في م.ت.ف وحركة فتح بحكم مصالحها الطبقية، لم تجد مدخلاً ومبرراً لهبوطها واستمرارها بعملية التفاوض العبثية سوى السياسة الواقعية الرثة الأقرب إلى الاستسلام لشروط العدو عبر التنازل عن كامل حقوق شعبنا في أرض وطنه المغتصبة عام 1948.
نستخلص مما سبق أن مسيرة النضال الوطني التحرري والإجتماعي الديمقراطي الفلسطيني قد انتقلت من حالة الأزمة التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى حالة المأزق الذي يصيب اليوم بنيانها وقيادتها وفكرها السياسي.
فلقد أدى الانقسام إلى تفكيك النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني، ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني، الذي يبدو أنه ينقسم اليوم إلى مجتمعين أحدهما في الضفة والآخر في قطاع غزة، ناهيكم عن عزلتهما عن أبناء شعبنا في الشتات والمنافي.
وهنا بالضبط تتجلى ملامح المأزق السياسي والمجتمعي الفلسطيني، عبر مواقف كل من حركتي فتح وحماس وصراعهما الفئوي على السلطة والمصالح بعيداً عن جوهر وشكل المشروع الوطني التحرري الديمقراطي الفلسطيني، بحيث يمكن الاستنتاج ، أن كل من فتح وحماس ، قدمتا لشعبنا الفلسطيني أسوأ صورة ممكنة من حاضر ومستقبل المجتمع المحكوم بصورة اكراهية ، لادوات ومفاهيم الاستبداد والاستغلال والتخلف ، وهي مفاهيم وأدوات وممارسات لم ولن تحقق تقدماً في سياق الحركة التحررية الوطنية ، بل على النقيض من ذلك ، ستعزز عوامل انهيارها والانفضاض الجماهيري عنها وصولاً إلى حالة غير مسبوقة من الاحباط واليأس ، كما هو حال شعبنا اليوم عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص.