بعض العشق قد يشفي – قصة قصيرة
محمد نجار
ظل حنا يجادلني طوال سنوات، بل يدافع عن هجوماتي المتتالية على دينه “المُحرّف”، يغضب أحياناً ويحزن أياماً ويصمت معظم الأوقات. يأتي بالحجج متهادياً مفسراً مؤكداً على صحة معتقداته في أول الأمر، مثلي تماماً وربما أكثر، وكنت عندما تضغطني حججه وتقيدني تفسيراته، أقذفه بحديث نبوي من صحيح البخاري أو صحيح مسلم يفقده توازنه ويعيد الأمور إلى بداياتها. كل هذا وسط ضحكات صديقنا عاهد، ذلك اليساري الذي لم يشارك أيّنا رأيه أو حججه يوماً، والذي طالما رمى بوجهينا عباراته الناهية لتضع حداً لعنادنا، وتُوقف عباراتنا قبل أن تتحول إلى كريات من كُرْه. الكره ينمو ويكبر ككرات الثلج عندما تتدحرج، يضحي سيفاً للذبح بيد الدين، فيصير الدين أداة بيد الأعداء، وطريقاً لهم لاختراق جدران البيوت وتفتيت الأخوّة وتقسيمها، ونكون نحن الوسيلة، كذئاب حيناً وخراف حيناً آخر.
قال لنا ذات يوم:
ـ أنا لا أفهمكما، ماذا يهمكما بماذا يعتقد الآخر، سواء كان مصيباً أم مخطئاً؟ ما الذي يزعجكما مادمتما تعتقدان أن الله مَنْ سيبُتّ بالأمر وليس أيّكما؟ لماذا يؤرّقكما الأمر إلى هذه الدرجة؟ ألا تستطيعان النوم إلّا وأنتما مختلفان؟
يتابع بعد أن يسحب نفساً من سيجارته المتقدة اشتعالاً من طرفها البعيد:
ـ ألم تتساءلا يوماً كيف تعايش أجدادنا طوال القرون الفائتة؟ كيف جمعهم الحب والوئام والتزاوج وصلات الرحم والقربى؟ لماذا لم يقم أحد بطرح مثل هذه الخلافات حتى الأمس القريب؟ لماذا بقينا قريبين من بعضنا رغم اختلاف مذاهبنا وطوائفنا وأدياننا ومعتقداتنا؟ لماذا كان ما يجمعنا أضعاف ما يفرقنا؟ ثم من المستفيد من تسعير هذا الخلاف بيننا؟ بل لماذا ممنوع في بلاد مَنْ يُحرضوننا المسّ بمعتقدات الآخرين مهما كانت، ومطلوب وضروري في بلادنا تسعير هذا الخلاف؟
كنت أرد عليه كعادتي:
ـ أنت يساري ولا تؤمن بما نؤمن، فاتركنا نتحاور في أمور دينَينا.
إجاباته كانت حاضرة دائماً، كأنه رتب كلماتها منذ ليال بعد معرفة مسبقة بأقوالي واسئلتي، كان يقول:
ـ ألا تلاحظان أنكما تأتيان من أجل المناكفة فقط؟ لم نعد نتحدث عن أمور أخرى، ولا أدري بماذا يهمك أو يقلقك معتقد الآخر؟!
كان يجمعنا سوياً عند توجيه ملاحظاته، رغم معرفتنا جميعاً أنني أنا مَنْ كان يلحّ على مثل تلك الحوارات والأحاديث وليس حنّا. يسكت قليلاً ويتابع كأنه التقط فكرة داهمته فجأة كما يلتقط زهرة:
ـ تتغنيان، أنتما الإثنان، بإبداع الله في خلقه، بتنوع هذا الخلق وجمال ألوانه، لكنكما تصرّان، في ذات الوقت، على فرضية اللون الواحد! ألم تدركا بعد أن الله لو أراد الكون لوناً واحداً لكان الأمر عليه أيسر وأسهل؟ لكنه آثر خلق الكون ألواناً متعددة وتضاريس مختلفة وفصول عديدة، فخلق من الحيوانات الآلاف ومن النباتات الملايين وكذلك الحشرات، حتى البشر خلق منهم الأبيض والأسود والأصفر والأحمر وما بينها. الأمر نفسه بالنسبة للديانات، فلو أراد ديناً واحداً لكان له ما أراد، ولجعل منا نسخة كربونية وأنهى الأمر، لكنه أراد ديانات وأفكاراً ونظريات عديدة ومختلفة.
قلت وقد استفزني حديثه:
ـ لكنك لا تؤمن بكل ذلك، ناهيك عن الإيمان بالله، وأنا لم أرك يوماً تمارس الطقوس الدينية والعبادات.
قال بكل هدوء، وكأن ما قلته لم يستفز شيئاً فيه:
ـ ليس من شأنك بماذا أؤمن أو بمن، ولا أعرف مَن أعطاك الحق بمراقبة قلوب البشر والحكم عليها أيضاً. الأكيد أن الله لن يُميزك عني كونك تُصلي، كلنا يعلم أن الدين معاملة، أليس كذلك؟ رغم ذلك عليك أن تعرف أن اليساريين لا خلاف لهم مع الله، خلافهم مع مَنْ يستغل الله ويجعل منه أداة استرزاق، مادة يضحك بها على بسطاء الناس، فيحوّل الخالق من عادل إلى تاجر. خلافهم مع مَنْ يجعل المظلوم يرتاح لظلمه، يستأنس بعبوديته ويستسلم لها، بدلاً من أن يستنهض الثورة فيه يربطه بحبل الخنوع والإستزلام والذل. ينتظر الموت ليدخل الجنة، ليأكل ويشرب ويمارس الجنس وينام، بدلاً من أن تكون الجنة مكاناً للثوار والبررة والصادقين وذوي المعاملة الحسنة، الثائرين أول الأمر على “أولي الأمر” من حكام الظلم والجهالة والفساد، فتكون لهم الجنة ليرتاح الجسد وتهنأ الروح.
الأمر الآخر، كأنك ياصديقي تتناسى أننا، نحن اليساريون، أبناء هذا المجتمع، بإيجابياته وسلبياته، تاريخنا من تاريخه ومستقبلنا من مستقبله، لذلك لطالما روت دماؤنا أرضه، وظلّ لحمنا على جدران زنازينه، وكنا السبّاقين في الذود عن كرامته، فهل تنكر؟
حواراتنا تلك جردت علاقة صداقتنا من قوتها، فوهن عودها وضعفت أوراقها وتساقطت ويبس ساقها، وصارت لا تحتاج إلّا لهزة لاقتلاعها من جذورها. تباعدت لقاءاتنا وصارت تعتمد على المصادفات، وسرعان ما صرنا نتجنب حتى تلك المصادفات كي لا نحرج أنفسنا، الأمر الذي جعلني أعيد الأمور برأسي مجدداً. وجدت أنني أنا من كان يختلق الحوارات، وأن حنّا كان في معظم أوقاته مدافعاً وليس مهاجماً، ورأيتني أخال نفسي كرجل مدجج بالسلاح يهاجم إنساناً أعزلاً، ورغم كل محاولات تبريراتي رأيتني لا أستطيع الإجابة على سؤال عاهد الجَوهري:
ـ ما الذي يقلقني ويربكني ويضجّ مضجعي في إيمان حنا ودينه، سواء أكان صحيحاً أم لا؟ كيف استطعت التدخل في صلاحيات الخالق ومن الذي أعطاني هذا الحق؟
لكن كما يقول المأثور الشعبي أنّ ” الكُفْر عناد”، فرأيت في تراجعي ضعفاً وفي اعتذاري هواناً، وفضّلت بتر العلاقة على الاعتراف بذنبي، وعليه قررت مع نفسي أن لا أتراجع قيد أُنملة حتى لو افترقت طرقنا وتشظت علاقتنا في الهواء نتفاً.
أحداث واقعنا ظلت كالعادة تجعل للطرق المتباعدة تقاطعات لا يعرف أحد كيف جاءت ولا من أين! صرت أشاهدهما سوياً جيئة وذهاباً. كنت أعلم أن سر قربهما كونهما لا يتناقشان ولا يتجادلان في المعتقدات، أو المحرمات كما أسماها عاهد، تماماً كما كنا سابقاً قبل أن تقتحمني مشاعر الكُرْه التي لم أعهد لها مثيلاً في حياتي أبداً، أو مشاعر عشق اللون الواحد كما سماها عاهد وأضاف:
ـ حتى أنك لم تحسن اختيار اللون، فاخترت الأسود الدامي الذي لا شفاء منه دون نفي الآخر والقضاء عليه، وصولاً لتدمير الذات أيضاً.
كنت أذهب للصلاة في الأقصى عندما أغلقه بني صهيون في وجوه المصلين، وكنت أرى نفسي كالأعراب أشد كفراً ونفاقاً لو لم أفعل ذلك، ولم أتخيل مسلماً مؤمناً لا يذود عن أحد أقدس المقدسات الإسلامية، المسجد الأقصى. ظلّ الجند يمنعوننا ويهاجموننا بكل ما لديهم من عدوان وكراهية، فكنا نتجمع ونصلي على أبواب البلدة القديمة، على باب الأسباط وباب الساهرة وباب المغاربة، وعلى مدخل باب العامود ودرجاته، وفي طرقات القدس القديمة القريبة من ساحات المسجد الأقصى، وأحياناً على باب كنيسة القيامة نفسها. الجند يحيطون بنا من كل جانب ونحن نتكاثر على أبواب كل صلاة، بل ودون مواعيد الصلوات، ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم، وكلما زادت أعدادنا تصاعدت في دواخلنا طاقات لم نعهدها من قبل. تزايدت قناعتنا بحتمية انتصارنا، الأمر الذي كان يمدنا بطاقة جديدة متجددة. كنت أحمد الله على نعمة الإسلام التي أنعم بها علينا، وتجليها بهذه الزيادة البشرية المستمرة، حيث الناس نهر متدفق متتابع، يزداد في كل لحظة كأن أمطار الدنيا تصب في مجراه وحده، يتوسع نبعه وتتدفق مياهه لتغطي ساحات القدس جميعها وشوارعها وأزقتها.
كنت قد تهيأت للصلاة في باب الأسباط، بعد أن وصلت متأخراً قليلاً بسبب حواجز قوات الإحتلال، وتفاجأت بهما الإثنان، حنا وعاهد، يصطفان مع بقية المصلين. حنا يحمل صليبه وكتابه المقدس، يقوم بشعائره وسط صفوف المسلمين، يقرأ في سره من الكتاب وتقوم يداه بالتصليب، وعاهد يسجد ويركع ويصلي كالبقية. كدت أكذّب نفسي وأتهم عينيّ بالعمى، وخجلت لأعيد النظر مرة أخرى نحوهما. صليت وركعت وسجدت وأنا مشغول البال سارح الذهن، لا أعرف إن كان الله سيقبل صلاتي تلك أم يرفضها لكثرة ما تشابكت في رأسي التساؤلات والأفكار، ولم ينقذني من أفكار رأسي سوى قنبلة غاز انفجرت بين قدميّ وأنا أهم للسجود، فأوقفتْ سجودي وأفكاري وأغرقتْني في بحر من السعال حتى الإغماء.
أفقْتُ بعدها بوقت لا أعرف مدته على بصلة فلقها عاهد بيديه القويتين ووضعها على أبواب أنفي، وأنا أريح رأسي بين يدي حنّا. لا أعرف الشعور الذي داهمني، كانت تتدفق دموعي كينبوع، ليس بفعل الغاز وحده. مرت حواراتي العقيمة كلها دفعة واحدة أمام وجهي، أليس هذا الذي عاديْته بسبب دينه؟ أليس هو الذي قاطعْته بسبب معتقداته؟ ما هي ميزتي عنهما؟ من يعلم إن كنت أقرب منهما إلى الله؟
قلت سائلاً:
ـ أنتما؟!
قال أحدهما، ولم أميز صوت مَنْ منهما بالضبط:
ـ أكنت تعتقد أن الوطن لك وحدك؟ دينك ومعتقدك لك، لكن الوطن لنا جميعاً.
لا أعرف ما الذي ذكّرني ببعض كلمات عاهد البعيدة، عندما كان يكرر:
ـ إن العشق ياعزيزي إله، إله واسع الأفق وربٌّ كبير، يحب القمح والربيع والزهور على اختلاف ألوانها، وأكثر من ذلك يمنح الحياة. لمّا تستعصي قدماك عن حمل سنوات عمرك أكثر، وتتيبس العروق في جسدك، وتضيق على دمك الطرق والأزقة ليصل لكامل أنحاء جسدك، فيبهت الجسد ويصفرّ لونه كأوراق شجرة في طريقها إلى الإنتحار، يمنحك السكينة والهدوء والطمأنينة، يحملك على أكتافه، يشد منك العصب ويقوي العضل ويجدد فيك الحياة.
كان يتحدث سارحاً بعيداً متأملاً في ملكوته الخاص، عيناه تنظران وراء الأفق، ويتابع قائلاً:
ـ كل ذلك مشروط بأن تكون عاشقاً… فهل تفعل؟
وسرعان ما صحح له حنّا:
ـ تقصد فهل يقدر؟
حملاني إلى خارج الازدحام، ابتعدا عن دوريات الجيش التي ظلت تعتقل الجرحى وتنهال بالعصي على النساء وكبار السن. الشباب يزداد تصميماً، حجارته تهزم رصاصاتهم، وكنت أتساءل دون صوت: كم من هؤلاء لا أعرفهم بين جموع المصلين لا يحملون إنجيلاً ولا يبوحون بمعتقدات؟ كيف استطعت الحكم على هؤلاء الناس ومُعاداتهم؟ أدركت حينها بالذات أن الله أنعم على كل منا بدينه أو معتقده أو مذهبه، بغض النظر عن ماهيته. لكن ظل سؤال متمرد يقف أمامي مثل مارد متحدياً:
ـ هل كنتُ سأدافع عن كنيسة حنّا لو تعرضت للخطر؟!!! هل كنا سنفتح مساجدنا ليقرعوا منها أجراسهم كما فتحوا لنا أبواب كنائسهم للآذان وإقامة صلواتنا وطقوسنا الدينية؟
لاحقتني الأسئلة وتابعتني، ووجدْتني لا أستطيع التخلّص منها وهي تدق جدران جمجمتي. كما وقف أمام عيني السؤال الأكثر خطراً ومباشرة:
ـ هل كنت أستطيع حمل السلاح في وجه صديقيّ حنا وعاهد، بسبب دين أحدهما ومعتقدات الآخر، في ظرف مختلف؟
أربكني الأمر إلى درجة الشلل، فعجز لساني عن النطق، وكبّلتْ عقلي أصفاداً من حديد، ولأول مرة أشعر بثقل القيد على العقل واللسان. حاولت مطاردة السؤال وإبعاده إلى الجحيم بعيداً، لكنه ظل يزنّ في تلافيف رأسي مثل ذبابة لا تهدأ، تغيب وتغيب لتعود وتحط على ذات المكان. لأول مرة أفشل في طرد سؤال يلاحقني ويطاردني مثل بضعة جنود مدججين بالسلاح، يحيطون بي من كل جانب ومكان. في تلك اللحظة بالذات أدركت كم أنا بحاجة لبعض العشق، وأن بعض العشق قد يشفي.
إلتقينا بعد ذلك، كنت قد بدأت أعود إلى ذاتي ويعود إليّ صوابي، ووجدتني أقتحم عليهما وحدتهما، أعبث بخلوتهما وأرميها بعيداً، تماماً كما كان يفعل كل منا من قبل. لم أتركهما اثنين قط، بل زرعت نفسي معهما لنصير ثلاثة، مدركاً أنه حتى “الموت مع الجماعة رحمة”، وأن الجمع مهما كان قليلاً يبقى جمعاً، وهو، في معظم الحالات، خير من المفرد والمثنى وربما أجمل.