القلعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة – فصة قصيرة
الكاتب : محمد نجار
ساقتني قدماي إلى بيت الشيخ أبو محمد الأعور، كي يُفسر لي حلماً يتابعني ويلاحقني منذ زمن، ولست بقادر على التخلص منه. الأعور لقب له كما صِفة أيضاً، أمّا كيف فقد الشيخ أبو محمد عينه أو كيف فُقئت؟ فهذا شأن آخر. هناك قصص وأقاويل وحكايات نُسجت في هذا الموضوع، لكن الإجماع استقر على حكايتين اثنتين مختلفتين في هذا الأمر، سأوردهما كما سمعتهما دون زيادة أو نقصان، ليس لأن الأمر مهم، لكن من باب الإنصاف وقول كلمة الحق ليس إلّا.
يؤكد البعض أن للشيخ قصصاً وحكايات وصولات وجولات في تفاسير الأحلام، كما في الربط والحل للرجال أثناء الزواج وقبله وبعده، وفي التوفيق بين الأزواج أو طلاقهما، كما وفي فن كتابة الحِجابات. للرجل صلة بعالم الجِنّ الذي يوظفه في حل قضاياه المستعصية، لذا يؤكد بعض الرواة أن فقء عين الشيخ تم على يد أحد زبائنه.
قال الناس أن رجلاً قصده في حل مشكلة ما، وأنه أعطى الشيخ كل ما طلب، لكن مشكلته لم تُحل أبداً. في كل مرة تزيد مطالب الشيخ كانت تتعقد مشكلة الرجل، حتى جاء يوم قرر فيه الرجل أن يستخدم عقله. بعد دراسة للأمر وتمحيص وتدقيق، واحتساب ما خرج من جيبه لجيب الشيخ أبي محمد، الذي لم يكن أعوراً بعد، أدرك الرجل أن أبا محمد قد استغله أبشع استغلال. رأى نفسه أبلهاً أو أُضحوكةً في أحسن التعابير وأكثرها تهذيباً، وفي الوصف الحقيقي للموقف رأى الرجل نفسه حماراً. نعم حمار بأذنين واقفتين وذيل طويل، وأنه دفع مالاً مقابل كلمات لا أكثر ولا أقل، وفوق ذلك هي كلمات فارغة كاذبة. طالب الرجل بماله المنهوب، قال والشرر يتطاير من عينيه:
ـ لقد اتفقنا على أن أعطيك مالاً مقابل حل مشكلتي، فأخذت المال وبقيت مشكلتي دون حل، لذا أعطني ما دفعته من مال وأسامحك بتضييع وقتي والضحك على لحيتي طوال هذه الأشهر.
لكن أبا محمد رفض بشدة. أكّد الرواة أنّه مثل المقبرة لا يرد شيئاً، لذا رفض ردّ المال وفي نفس الوقت استفز الرجل أكثر وقال له:
ـ إذا كان رب العباد خلقك حماراً، وردّ لك بعض عقلك الآن، أتريد أن يكون ردّ عقلك على حسابي أنا؟! خسئت.
الرجل الذي كان ينفث ناراً من شدة غضبه قبل سماع هذه الكلمات، ارتفع نبض قلبه واندفع الدم إلى عروقه، اشرأب عنقه ولم تعد شفتاه قادرة على النطق. حين همّ بالكلام رأى نفسه يقف على أبواب النهيق، كاد يتأكد أن بينه وبين التحول لحمار مسافة كلمة واحدة يخرجها من فمه، وأن كل الكلمات ستتحول إلى نهيق لا ينقطع. ازداد غضبه ثورة، ورأى نفسه قافزاً كأن شيئاً يدفعه، إلى عنق الشيخ أبي محمد الأعور. يضغط على عنقه بكل قوته، وقبل أن تفارقه روحه وتتجه لخالقها، ولم يبقَ بينه وبين العالم الآخر سوى شهقة واحدة فقط، تركه وتوجه لمرجل النار الذي يتوسط عادة بينه وبين زبائنه، وقلبه فوق رأسه، وبإصبعه فقأ عينه وخرج والدم يقطر من يده. من يومها صار أبو محمد أعوراً إسماً وصفة. لم أصدق هذه القصة من قبل أن أرى الشيخ وأتعرف عليه، ولمّا رأيته قدّرتُ أن هذا القول ليس إلّا من باب الحقد والحسد.
أما القصة الثانية حول عينه المفقوءة، فنقلها الرواة كالتالي:
قالوا أنّ أبا محمد الأعور الذي لم يكن أعوراً حتى تلك اللحظات، رجل بخيل جشع، وأنه استطاع شراء محصول بعض أشجار الزيتون في ذلك الموسم، من بعض الفلاحين المحتاجين. بحكم مهنته لم ينقصه المال يوماً، رغم أنه لا يعرف شيئاً عن شجر الزيتون ومواصفاته. عندما جاء موسم قطف الزيتون، قرّر أبو محمد أن يقطف الزيتون بيديه كي لا يدفع للآخرين مقابل عملهم، غير مدرك أن للزيتون موسمه المحدد والذي لا يمكن استباقه أو تأجيله. كان عندما يقطف ثمار شجرة الزيتون، يسحب الحبات ويسحب معها أوراق الشجر مُعرّياً. شجر الزيتون مثل نساء قلعتنا، لا يقبلن أن يُعريهن غريب، ولا يقبلن أن يتعرين دون رغبتهن أيضاً، وفوق هذا وذاك يرفضن أن يقفن على رؤوس الجبال عاريات كما خلقهن الله، لتتلصص عليهن كل عيون المارة.
تركن الأمر لزعيمتهن لتنتقم، الشجرة الرومية التي بشرت مهللة راقصة بقدوم السيد المسيح قبل ما يزيد عن ألفي عام، الشجرة التي كان يستفيء بظلها يوحنا المعمدان مُحرضاً الشعب لاتّباع المعلم. كان جذعها يتسع لعائلة كاملة لتحميها عندما كان القصف يشتد على أهالي القرية من الغرباء بعد ذلك بألف جيل.
لم تجد الزيتونة الرومية أمامها بُداً من محاسبته، واتخذت قرارها باقتلاع إحدى عينيه، نعم اقتلاع عين واحدة بأحد أغصانها، وهكذا فعلت. صار منذ ذلك الوقت الشيخ أبو محمد الأعور أعوراً بحق، وصار درساً لمن يحاول اغتصاب أشجار الزيتون على وجه خاص.
هناك الكثير من الروايات التي لم تستطع أن تستقر في رأسي الكبير الذي أمامكم، لأنني لم أصدق أياً منها، فما دام أعطاني الله رأساً بهذا الحجم وهذا الكبر، فسيحاسبني إذا لم أستخدمه. أقول لكم ذلك من باب سرد الحقيقة فقط، لأني لا أجزم بصحة أي قصة من القصص التي ذكرتها لكم.
كي لا تذهب بكم ظنونكم بعيداً، عن هذا الشيخ الذي طالما اعتبرته عالماً جليلاً، لا يكف عن ذكر الله “بكرة وأصيلا”، فالرجل لم يفقد سوى عيناً من عينيه لكنه لم يفقد بصيرته. عمى البصر ليس كعمى البصيرة كما قال والدي رحمه الله دوماً، رغم أنه لطالما أرفق كلماته الناصحة أو الشارحة لي بكلمة “يا دابة”، كوني لم أكن أستمع لنصائحه دائماً، وإن استمعت فبالشكل الذي أعرفه أنا وليس بالطريقة التي يريدها هو. لو كان اليوم موجوداً لقال من جديد:
ـ أإلى هذا الحضيض وصلت أيها الدابة؟ أهذا ما اهتديت إليه لا هداك الله، إلى البصارين والعرافين؟
ولرفع يديه للسماء مكملاً، ومعاتباً ربه:
ـ يارب منك وعليك العوض، أهذا مَنْ رزقتني به ليرثني؟ كان الأفضل أن أظلّ بدونه، أو أن تجعل أمه عاقراً… اللهم لا اعتراض.
ثم لكان التفت إليّ وقال:
ـ تحمل رأساً كرأس البغل وجثةً كجثته، وطفل صغير بإمكانه جرك أيها الدابة.
حتى لا تضيعوا معي في هذه المتاهة الطويلة، عليكم التركيز لما دفعني للذهاب إلى بيت الرجل، لذلك فلنترك أبي يرتاح في قبره، ولأقص عليكم ما الذي أوصلني لبيت الشيخ أبي محمد الأعور.
أبو محمد الأعور هذا، كما علمت لاحقا، صار يُركّز على اسمه الأخير بشكل دائم، كون الناس لا تعرفه إلا بصفته تلك، فأصبح اسماً على مسمّى. ما أن يقول المرء الأعور لوحدها حتى يعرفه الناس فوراً. يقول الرجل أنه يعرف مدى سوء الإسم وقبحه، لكن من باب التواضع لله، فإنه يصر عليه كي لا تأخذه نفسه وتغرقه في بحور الكبرياء، ويبتعد عن قول الله “إن الله لا يحب كل مختال فخور”. يريد نفْساً متواضعة خاشعة بعيدة عن التكبر، خاصة بسبب علاقته النافذة عند معشر الجن، حيث لا يُرفض له طلب ولا يُرد له أمر. تتقافز الجن على أصابع يديه كلاعبي السيرك، بعد أن يتقزموا ليتسع لهم المكان، ويُحضرون له ما أراد ويجلبون له كل ما طلب.
البعض يُكذّب الشيخ وينفي أقواله، ويعتبره رجلاً أفّاقاً كذوباً منافقاً، وأنه ليس إلّا مُدّعياً وعلاقته بالجن ليست سوى من باب الضحك على الذقون، وتركيزه على الإسم من باب الدعاية وليس من أي باب آخر. مثل “أبو محمد” يوجد الألاف، لكن كم أعوراَ ستجد في طول البلاد وعرضها؟ كثيرة هي القصص والحكايات وحتى النكات التي تم نسجها حول عينه تلك، وكي لا تغرقوا معي في تفاصيل لا لزوم لها، ركزوا معي على أصل القصة التي أوصلتني لهذا الشيخ، كوني أعتقد أنكم، مثلي، تُريدون العنب وليس مقاتلة الناطور.
ما أن طرقت الباب حتى فتح لي شاب دخل مرحلة الشباب منذ بضع شهور فقط، وقد بدا أنه خارج لتوه من طفولة طويلة أرهقته وأتعبت جسده اليافع. لم يقل شيئاً عدا رد التحية كأنه مصاب بداء القرف من كل ما يجري، وأنه مع تكرار الأمر مرات في اليوم الواحد، لم يعد يحتمل أكثر. أعطاني ظهره وقال:
ـ تفضل… اتبعني.
لم يسألني مَنْ أنا ولا ماذا أريد، كأنه لا يأتي بيتهم أحد إلا لهذا الأمر الذي جئت أنا أيضاً من أجله. اقتادني لغرفة الصالون، حيث هناك رجل واحد ينتظر دوره، بادرني بالسؤال عن اسمي ولقبي وبعض المعلومات عن عائلتي، وعن سبب مجيئي. لما أخبرته أني قادم من أجل تفسير حلم يلاحقني منذ أسابيع، كان قد جاء دوره ودخل. بعد دقائق جاء آخر ليطلب مبلغاً من أجل الجن الذي يعمل مع الشيخ أبو محمد الأعور، فهؤلاء الجن لا يعملون بالسُخرة، والشيخ الذي يفعل ما يفعل فقط لوجه الله، لا يريد جزاءً ولا شكورا، لكنه لا يستطيع أن يغطي مصاريف الجن من جيبه الخاص. طالبني بأن أُحضر معي في المرة القادمة خروفاً لا يتجاوز عمره الستة أسابيع، برأس أسود وجسد أبيض، أو برأس أبيض وجسد أسود، وإن تعذر فليكن خروفاً أسوداً، وإلّا ليكن أبيضاً، وإن تعذر فأي خروف وبأي شكل أو عمر أو لون، إضافة لدجاجتين بلديتين مع ديك بريش طويل مُلوّن. بعض الجن التي لا تأكل لحم الخراف، تحب لحم الدجاج البلدي والعكس صحيح، لكن “إياك أن تأتي بدجاج المزارع”، فالجن لا تأكله أبداً.
قال مبغضو الشيخ معلقين، أن الرجل الذي كان أمامي، هو أحد العاملين مع الشيخ وليس زبوناً آخر، وإلا لما سألك عن أصلك وفصلك وسبب مجيئك. علّق بعضهم قائلاً إنه “عصفور” الشيخ، يعمل كما تعمل “العصافير” في الزنازين لصالح المحتل. ضحكوا كثيراً، وأكمل المتحدث قائلاً، أنه يجالس القادمين ليأخذ منهم بعض الأسرار والمعلومات، يعطيها لشيخه الذي يستخدمها بدوره كأنه يعرفها، ليخدع بها الناس…”الطيبين” أمثالك. أمام تردده في ذكر كلمة الطيبين، تخيلت المرحوم أبي يقولها بفم ملآن ودون تردد، أمام الدواب من أمثالك. لكني أيضاً لا أظن ذلك، لا أصدق ما يقولون، وأعتقد أن ذلك من باب الحقد والحسد على الشيخ أبي محمد الأعور.
أدخلوني غرفة شبه مظلمة في وسط النهار، كانت شبابيكها قد صُغِّرت عمداً، وغُطي ما تبقى منها بستائر ثقيلة لتمنع الشمس من التسلل والدخول. فعل أبو محمد الأعور ذلك بنفسه كون الجن لا يحب النور، بل يعشق الظلمة ويفضلها، فكان لزاماً عليه توفير الحد الأدنى من رغباتهم. أبو محمد الأعور الذي تآخى معهم وعاهدهم وعاهدوه، تآخى فقط مع المسلمين منهم مبتعداً عن يهودييهم والنصارى، وشن حروباً طويلة عليهم جميعاً، في معركة “الشرشحة والمرمرة”، حيث شرشحهم ومرمرههم كما كان يؤكد متحدثاً. أمّا في معركة التحليق والتمزيق والتعليق، حيث حلّقت معه الطير الأبابيل، وبسواعده مزق أجسادهم وعلق رؤوسهم على الأعمدة والأشجار، وضرب بيد من حديد ملحديهم بشكل خاص وهزمهم شر هزيمة. في تلك المعركة تحديداً يؤكد أنه فقد عينه، حيث جاءه سهم طائش من جني مسلم عن غير قصد.
علق أحد مستمعيّ قائلاً:
ـ آه… تقصد أنه من نيران صديقة…
ضحكوا طويلاً هذه المرة أيضاً، حين علق آخر مستذكراً أسماء المعارك التي ذكرتُ أنه خاضها، لكني تجاهلتهم وأكملت وقلت إنه لهذا السبب بالذات يصر على التمسك باسمه وصفته، كونه فخوراً بما أصابه من القوم الكافرين، وعينه المفقوءة هي علامة من علامات الجنة على جسده.
سرعان ما عاد كَفَرة الجنّ ومُلحدوهم لتجميع أنفسهم، وشنوا حروباً ضد مسلمي الجن بقيادة أبي محمد الأعور نفسه، والحرب كما تعلمون سجال، مرة لك ومرة عليك، لكن الشيخ لم يتراجع إلاّ بعد أن نصره الله عليهم وفنى بقدرته القوم الكافرين. لقد وهب الرجل نفسه لذلك والله على ما يقول شهيد. أتتخيلون إنسيّاً يقود جيوش مسلمي الجن ليحارب أعداء الله من كفار ومرتدين وزنادقة، ليُعلي كلمة الله في مجتمعات الجن وفي جحورهم؟! أتتخيلون ما له من فضل على المسلمين جميعاً من إنسٍ وجن؟!
كانوا ينظرون لبعضهم بعضاً أمام كلماتي، حتى تراءى لي أبي وتوبيخاته من جديد، كأنه راعه غبائي أو طيبتي، ونظراتهم ظلت تطلق كلمات أبي نحو رأسي كرصاصات…يادابة… فضحتني يادابة… قف عن التبول والتبرز من فمك، ألم تسمع يوماً “إنْ كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”؟ “الحق” ليس عليك، بل علينا نحن، لو لم نكن دواباً لما خلّفنا بغلاً مثلك! ماذا سأفعل وقد بدأت بالحديث عن سبب ذهابي، مادمت بدأت فلا بد أن أتمم ما بدأت.
ما أن دخلت حتى واجهني الرجل بكلمتين من لسانه لأن أجلس على كنبة مقابله، وقد كان جسده فقط في الغرفة، لكن روحه بالتأكيد لم تكن معنا. كان دخان البخور الثقيل يتطاير من وسط المرجل الذي بيننا، دخان كثيف ككثافة قنابل غاز الاحتلال لكن بطعم ورائحة مختلفين. تزداد كثافة العتمة في المكان، ويصير من الصعب التدقيق في أيما شيء. سرعان ما تبدأ شرارات بالتناثر من المرجل في سماء المكان، يأتي صوت الشيخ الآمر:
ـ لا تتقافزوا أيها الجن كيلا تخيفوا ضيوفي.
ما هي إلا لحظات حتى يتوقف الجن الذي تمظهر لي على شكل شرارات بالاختفاء. تعود النار الى طبيعتها وشكلها ويكف الجن عن التقافز والألعاب، ويأتي صوت أبي محمد كأنه من داخل الجدران وليس من فمه، آمراً الجن شارحاً لهم:
ـ هذا الرجل الذي أمامكم هو صالح أحمد الطيب.
قال دون أن أخبره باسمي ودون أن يسألني، وأكمل:
ـ إنه ابن أبي صالح الطيب الذي توفاه الله منذ مدة وجيزة، له زوجة واحدة، لا مثنى ولا ثلاث ولا رباع، لم يرزقه الله سوى بذكر وأنثى، وامرأته لم تحمل الحطب يوماً، لأنهم يمتلكون فرن غاز بجرته في البيت. جاء ليوسطني عندكم لتفسير حلم يلاحقه منذ أسابيع، فاقعدوا وأنصتوا له علكم، في التفسير، تفلحون … حـــــــــــــــــي … أمامك سكة سفر…
وقبل أن أُبدي دهشتي بعبارته التي بدت كأنها فلتت من لسانه أو لأنه اعتاد قولها لكل زبائنه، استدرك أبو محمد الأعور مصححاً نفسه:
ـ أقصد، أليست معلوماتي صحيحة؟
لم ينتظر جواباً، بل تابع واثقاً من نفسه:
ـ قل يابني ما عندك… قل… إبدأ بشرح أحلامك وليوفقنا الله في التفسير.
ابتدأت في سرد الحلم للشيخ الجليل. قلت:
ـ لقد رأيت سيدي الشيخ حلماً أرجو أن يكون خيرأ…
ـ خيرٌ إنشاءالله، اللهم إجعله خير… حــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي.
ـ حلمت أننا نعيش في قلعة، يمتد أحد جوانبها مع البحر ويلازمه، وجانبها المقابل مع نهر طويل وبحيرات، وكلا الجانبين تتراص عليهما الأسوار العالية والقلاع والمدافع. في رأس القلعة كما تحت قدميها، تزداد الأسوار علوّاً ويتضاعف عدد الحراس، لأنهما لا يحظيان بحراسة البحر والنهر كما الجانبان الآخران، فالبحر والنهر حارسان ياشيخنا، لاتنام لهما عين ولا يغمض لهما جفن.
على امتداد الأسوار جميعاً ظلّ يتزايد عدد المتطوعين لحماية القلعة يوما بعد يوم، وكان هؤلاء يتسابقون في حمايتها، وفي مرات عديدة يبادرون لمهاجمة الأعداء قبل أن تصل أقدامهم إلى أرض القلعة أو حتى الاقتراب منها. يقوم الجند بالتضحية بأنفسهم من أجل القلعة، كلما أهدى أحدهم دمه إلى أسوارها أو شوارعها وطرقها وأزقتها وتربتها، كلما سارع الآخرون ليثبّتوا أسماءهم بعده على طريقه ذاته، ليكونوا الأوائل في المواجهة والمجابهة. في بعض الأحيان كانوا يتلاسنون إذا ما اقترب مَنْ لم يكن له “دور” محاولاً التعدي على “دور” غيره. لقد كانت القلعة والهبّة لحمايتها والذود عنها مقياس الأخلاق والحب والتضحية والفداء، مقياس الشرف والمروءة والشهامة وإنكار الذات. مَنْ أصابته إصابة يتباهى بها ويعلنها على الملأ، كأنها علامة من علامات الجودة في مجتمع القلعة وبين أهلها. من أراد خطبة فتاة حسناء من أهل القلعة، يتوجب عليه أن يقدم علامة حب للقلعة أولاً، لأن من لا يحب قلعته ولم يقدم لها على ذلك البراهين، لن يستطيع أن يكون قادراً على حب غيرها من النساء. الغريب سيدي الشيخ أن النساء كن يعلمن بالأمر ويعرفْنه ولا ينزعجن منه أبداً، كأن الأمر طبيعي ومنطقي ومفهوم لدرجة تنتفي فيه المقارنة أو الغيرة أو الحسد أو حتى الثرثرة في الموضوع.
أقول كان لا بد من تقديم هدية ما عند الرغبة بالزواج، وكلما كان جرح الجريح غائراً والنزيف أكبر كلما كان المتقدم للزواج مقبولاً أكثر وأسرع، تقام له الاحتفالات أياماً في شوارع القلعة وأزقتها وبيوتها وجوامعها وكنائسها. تمتد الاحتفالات ليال وأيام، ويمتد الرقص والدبكة والميجنا في طول القلعة وعرضها، ويسرح ويمرح “ظريف الطول”، ويعود “مشعل” من غربته على صهوة جواده. ترقص فاطمة وصبحة ووضحه وزينب وآمنة، وتمتلئ الشوارع بالأرز المنثور من أكف الصبايا على رؤوس الشباب، وتبدأ زفة العريس وسهرة العروس تسبقهما ليلة الحناء. تُضيء أنوار القلعة أعماق البحر ومياه النهر، يتبادل الجيران التحايا والزيارات والفرح، ما بالك عندما يرتقي شهيد من القلعة إلى السماء؟ كانت تتوزع الحلوى في الطرقات وتنتشر زغاريد النسوة في فضاء مدن القلعة على وقع أنغام أغاني الشباب والصبايا “ياأم الشهيد وزغردي كل الشباب أولادكي”. تتنافس أصوات المآذن مع أجراس الكنائس في تمجيد الشهيد ومكانه الذي لن يكون إلا بقرب الأنبياء والقديسين، ويكون عرساً “قلعاوياً” بجدارة واستحقاق، يستمر أياماً بلياليها دون كلل أو ملل، متحولة بيوت العزاء إلى زفة للشهيد رجلاً كان أم امرأة.
في القلعة سيدي الشيخ، مدن وأسواق وسهول تغص بالأشجار والخيرات والمحاصيل، الناس تتزاور وتتضامن وتتساهر، الخير يعم أرض القلعة من أقصاها لأقصاها بحماية الناس أنفسهم والمتطوعين. كان في القلعة سجن صغير للصوص، وهناك بعيداً في أعلى القلعة كانت قيادة القلعة، تحمل سلاحها وتنظر في كل الاتجاهات. تتابع هدير أمواج البحر، وما يختبئ فيه من أخطار الأعداء. تكاد لا تنام الليل خوفاً من مداهمة تختبئ في ظلال الموج، وتعطي الأوامر للمتطوعين ليدافعوا عن القلعة عند هبوب العواصف والرياح.
فجأة سيدي الشيخ ودون سابق إنذار، تماماً كما في الأحلام، تغيرت ملامح قلعتنا ورأيتها تضيق علينا وتتقلص. صار الأعداء يحيطون بنا من داخلها، تقلّصت أعدادنا كأن الناس في معظمها قد هُجّرت. ضاقت دنيانا علينا أكثر وأكثر، وأصبحنا في جزء قليل من أرضها بعد أن امتلأت على حين غرّة بالأعداء من كل حدب وصوب. اختفت المزارع والمحاصيل مع اختفاء معظم الأرض من القلعة، لكن حماة القلعة وقادتها ظلوا يدافعون عنها، أوقفوا الأعداء مرات ومرات، لكن أسلحتهم صارت تختفي، نعم اختفت معظم أسلحتهم فجأة ودون سابق إنذار.
امتشق حماتها وأهلها الحجارة، ظلوا يدافعون عنها بشراسة أكثر، اعتبروا أنهم لم يُهزموا بعد، رغم خسارتهم لمعركة كبيرة فخسارة معركة ليست بهزيمة، وذهبت وعود الأقارب بالدعم أدراج الرياح. أخذوا يعوضوننا بالمال بدل الرصاص، وكما تعلم سيدي الشيخ، فالمال لا يستطيع أن يكون بديلاً عن البنادق رغم قوته. بقدرة قادر، صار المال يصل إلى قيادة القلعة أكثر وأكثر، لا نعرف عبر أي طريق، رغم الحصار المفروض على القلعة من كل الجوانب والاتجاهات. يُقال أنّ للمال قوة يجهلها أمثالي، يمكنها أن تذلل العقبات وتخلق المعجزات، وهذا ما تم فعلاً. صارت قيادات القلعة تتكرش وتتكلس ويأكلها الصدأ، وصارت البنادق التي بأيديهم تتحول إلى رُتَب ونياشين ونجوم وهمية فوق الكتف وعلى الصدور. لمّا أخذت أدقق في وجوه هذه القيادات، رأيت أن لصوص السجن ومخصيي القلعة هم من أصبحوا قيادات اليوم، لكن لها نفس ملامح قيادات القلعة السابقين. صاروا يحكمون بالرصاص والعصي، وباعوا كل ما استطاعوا باسم الله تارة وباسم الوطن تارة أخرى، وصرت أسمع تسحيجاً من حماة القلعة، وصار المسحجون هم الأكثر قرباً للقيادات الجديدة، وصار يُرمى لهم المال ليهتفوا بحياة القيادة أكثر وأكثر.
ساد الظلام أرض القلعة، وانتشر الجهل كأحد أبرز ملامح المرحلة، وصار شيوخنا يا مولانا يلوون فم الدين ليُقوّلوه ما يريدون، ويجيّروه ليبرروا للصوص لصوصيتهم وللظَلَمة استعبادهم، ويلعنون ويُكفّرون ويُزندقون كل مخالف. حاربوا أهل العلم والمعرفة، وطاردوا العقول، وأخرجوا المؤمنين منهم من ملة الإسلام واستأصلوهم، كما تستأصل دُملاً متقيحاً آذاك وآلمك في مكان معين من جسدك. أصبح التكفير والردة والخروج عن أولي الأمر صفة ملاصقة لكل معارض، وأصبح إطلاق اللحى وحفّ الشوارب من مقاييس الإسلام وصحته، والمسبحة والعمامة من أعمدته وثوابته، فبدأ الإسلام يتقزّم ويتقلص ويضعف وعلى مقاس القيادة. سرعان ما ساد قانون التحريم، فحرّموا كل شيء، وصار هو السائد والحلال هو الشاذ، إلا لدى شيوخنا سيدي الشيخ وقيادات القلعة من لصوص ومخصيين، فكل شيء لهم حلال، وكل حرام عندهم مُباح. أضحى شيوخنا يتصدرون صفوف الهتّيفة والسحيجة في مدح الحاكم، وصارت بيوت الله مكاناً لمدائح الحكام والدعوات لهم، وأماكن للعبث والكذب والنفاق والعهر السياسي، فانتشرت قصائد الغزل مع صُور اللصوص كقيادة جديدة للقلعة، وحل سيف يزيد مكان عقل الحسين.
في زمن العتمة تزداد أعداد اللصوص كما تعلم يامولانا، لكن قيادة قلعتنا كانت تسرق في الظلام وفي النور، وصرنا نتحول تدريجياً إلى قطيع من الماعز، أو بالأصح إلى قطيع من البهائم حاشاك. علفونا وعلقوا لمن هتف وسحّج مخالي التبن، ومن حاول الاعتراض منعوا عنه الأكل والماء، ولاحقوه وأهانوه وضيّقوا عليه مصادر رزقه. صارت أيادي اللصوص الذين أصبحوا قادة لنا تمتد لتصافح الأعداء وتُنسق معهم، صاروا سوياً يلاحقون مَنْ رفض التخلي عن بندقيته، ثم لاحقوا من رفض التخلي عن مبادئه وأفكاره، فسجنوا وقمعوا وقتلوا بأيديهم وأيدي من كان بالأمس عدواً. كما في الأحلام سيدي الشيخ، لا أعرف كيف تتحول عيون حماة القلعة من مراقبة الأعداء إلى مراقبتنا نحن في الداخل، بنادقهم تطلق على القلعة وشعبها، وتحوّل معظمهم إلى طُفيليات بشرية، لاهم لهم سوى امتصاص دماء الناس.
اختفى “ظريف الطول” وعاد “مشعل” ملاحقاً كما في عهد السلاطين من عهد بني عثمان، وأضحت العتابا والميجنة “رجساً من عمل الشيطان”، حرّموا الموسيقى وزندقوا ما تبقى من كُتَّاب، كفّروا الفلاسفة والمفكرين وصار الدجل هو المسيطر. لا مؤاخذة سيدي الشيخ، انتشرت عيادات العلاج بالقرآن على حساب عيادات الأطباء، وحلّ بول البعير والأحجية والحجابات مكان الأدوية، وحرّموا القراءة والكتابة والتفكير، وأشاعوا النقل والمنقول، فحولوا الدين إلى عرض أزياء، فرضوا فيه زي الجاهلية وأوائل الإسلام.
سرعان ما لفلفوا النساء وبرقعوهن وأزالوهن من الخدمة، وعوّروا المرأة من رأسها لأخمص قدميها، وحشروها في سجون البيوت، فشيّأوها وألقوا بها بين الملاعق والصحون في المطابخ، وإلى فراش الجنس البهيمي. سادت الفتاوى وتمددت وشملت كل القلاع المحيطة، فانتشر تعدد الزوجات وملك اليمين وأسواق النخاسة، واغتُصبن الفتيات القاصرات، كذلك الطفولة في المهد وفي عمر الزهور باسم الدين والزواج، وادّعوا أنّ ذلك يتم على سنة الله ورسوله. حلّلوا جهاد النكاح، فتحولت القلعة إلى مجتمع ذكوري فج، يحكم فيه الذكور حتى لو لم يكونوا رجالاً، ويقود فيه المخصيون واللصوص باسم الله والوطن والشعب.
صارت الأمور تمشي على رأسها بدل قدميها، فأصبح تدمير الأوطان ثورة، واستدعاء الأساطيل الأجنبية مألوف وواجب، والقتل على الهوية من أسس الدين، فحلّ صحيح البخاري وابن تيمية وابن عبد الوهاب مكان كتاب الله وبديلاً عنه، فأمّموا الجنة وجعلوها للمسلمين، بل لطائفتهم وحدهم فقط. كفّروا بقية الطوائف والمذاهب والأديان، وقاموا بانقلابهم الكبير، فعزلوا الله ونصّبوا أنفسهم مكانه. صاروا هم من يقرر لمن الجنة ولمن النار، وأنهم هم، وفقط هم، من يقرر مصير البشر والحجر والشجر، وهم وحدهم الناطقون الحصريون باسم السماء.
ازداد الظلام لزوجة وعتمة، وصرنا نغوص فيه حتى رقابنا. لم يعد للزهور مكان في قلعتنا ولا في القلاع المجاورة، وصار الحب جريمة تستحق رجم القلب، الذي تجرّأ عليه، حتى الموت، أو اقتلاعه وأكله نيئاً. صار تفجير النفس بين المدنيين من أطفال ونساء شهادة، وشق البطون وتفخيخ الأطفال بطولة، وذبح الأسرى شهامة، وكلها توصل إلى الجنة. أمسى وضع اليد مع الغرباء لتقسيم ما تبقى من قلاعنا ضرورة، فسرقوا البسمة من شفاهنا. اقتلعوا أشجار التين والزيتون، وجففوا أشجار البرتقال بعد أن جفت دموعها وذبلت أوراقها. أبكوا نبتات الزعتر والميرامية في بطون الصخور، فجفت ينابيع الماء، وغادرتنا البحيرات، وخط لنفسه النهر مجرى بعيداً.
لشدة دهشتي يامولانا الشيخ، عندما استيقظت من حلمي هذا وجدت نفسي داخل السجن، نعم سيدي، لا تستغرب، فسجن القلعة الصغير الذي كان للصوص، أصبح كبيراً ويضم معظم السكان. نظرت بعينيّ الإثنتين اللتين “سيأكلهما الدود”، فوجدت اللصوص الذين رأيتهم في المنام يتربعون على العرش، هم أنفسهم، نفس الوجوه والأشكال، ورأيت معظم حماة القلعة يحملون أسلحة لمطاردة الشعب رغم كل خطر الأساطيل التي تحيط بنا وتهددنا. الأغرب يا مولانا أني رأيت بأم عيني كيف اختفى البحر وجفّت مياه النهر وتبخرت البحيرات، تماماً كما في الحلم. صارت الأمطار تجافينا وتفرّ من ظلام مدننا، وضاقت أرضنا بنا، فصرنا نتكلّس ونتكوّم في بضعة أمتار بعد أن كانت كل البلاد بلادنا.
استغفرت ربي عندما استيقظت، نهضت وصليت ركعتين للمولى عز وجل، قرأت الفاتحة وياسين وسورة الكرسي، بعد استعاذتي بالله من الشيطان الرجيم. لكن الحلم داهم رأسي في الليلة التالية، فأعدت ما قرأت من كتاب الله وأضفت سورة الناس والفلق وقل هو الله أحد، فهاجمني الحلم بشكل أكثر شراسة في الليلة التي بعدها. نفس الحلم يامولانا، فقرأت إضافة لما سبق سورة يوسف، ثم تمارضت وغبت عن عملي وأضفت فوق كل ما سبق سورة البقرة والنساء حتى أنهيت كتاب الله كله. ذلك كله لم يمنع تكرار حلمي في كل ليلة لاحقة، لدرجة صرت أظن “وإن بعض الظن إثم” أنّ ما رأيته ليس حلماً، بل حقيقة تتجسد لي في ثوب حلم، خاصة أنني كلما خرجت أو فتحت مذياعاً أو تلفازاً صرت أرى حلمي أمامي يتجسد داخل كل الأشياء.
هذا هو الحلم الذي رأيته يا مولانا، ما تفسيره، وهل تعتقد أنه حلم أم كابوس، وهل له صلة بالواقع الذي نعيش أم مجرد أوهام من رجل بائس ربما أصيب بعمى الألوان، أم أن الشيطان ركبني وصوّر لي الأشياء على غير حقيقتها؟!
أثناء شرحي لحلمي هذا للشيخ أبي محمد الأعور، كان الشيخ يرش البخور فوق النار، وبين فينة وأخرى يهدئ الجن الذين يتقافزون، وقد نَهَرَ مرّات الجان “شخبوط” وأخاه “زعبوط” ليكُفّا عن الإزعاج، كي يستطيع سماعي بشكل أفضل وأوضح، وكان رأسه يعانق أعلى كنبته وهو يصرخ “حـــــــــــــــــــــــــــــــــي”.
فجأة، بعد أن تعمّقت في شرح حلمي وأسهبت فيه، رأيت الشيخ أبا محمد الأعور يتوقف عن استدعاء الجن، ثم صار ينظر إليّ بعينه الوحيدة، وسرعان ما قام وأشعل المصباح الكهربائي، ثم أزاح الستائر عن شبابيكه الصغيرة ليراني بعينه بشكل أوضح. أخذ ينظر إليّ ويقيسني من الأعلى إلى الأسفل، عندها رأيت عينه المطفأة ينطبق عليها جفن قابض بشكل كامل، وما تزال تبدو عليه آثار جرح قديم غائر، ملتصقاً في تجويفها بشكل يصعب الفكاك منه. سرعان ما صارت قدمه تدق الأرض وكأنني أزعجه بما أقول، وما أن أنهيت حديثي حتى سألني بعصبية قائلاً:
ـ أنت لست من حكومتنا الرشيدة، فالجماعة، منهم من هو زبون لنا، ومنهم من يشاركنا لقمتنا، قل لي مَنْ الذي رمى بك إليّ؟ ما الذي تريده بحكايتك هذه؟
حاولت أن أقسم له بأنني صادق فيما قلت، لكنه نهض من مكانه ومن سرعته تعثّر فأوقع “الكانون” على مصطبة البيت، فتناثر الجن في كل مكان. لم يلتفت الشيخ لأحد من الجن المتطاير فوق المرجل ومصطبة البيت، بل سحبني من يدي وأخرجني إلى باب بيته الخارجي، أعاد لي نقودي، ومسح عينه السليمة بظاهر يده، وقال:
ـ أنا لم أسألك إن كنت صادقاً أم لا، أنا سألتك من الذي بعث بك إليّ؟ على كل حال إن رأيتك مرة أخرى سأكسر رجليك… لست بحاجة لمشاكل من جديد…إلى جهنم وبئس المصير.
دفعني إلى الخارج، حيث اصطدمت بالحائط المقابل، وأكمل بصوت خفيض:
ـ أجئت لتقطع رزقي أيها الزنديق؟ لصالح مَنْ تعمل أيها الكافر؟
ولما رأى بعض المارة قادمين صرخ بأعلى صوته:
ـ حـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيّ.
أغلق الباب خلفي وعاد لغرفته، بقيت وحدي أسير لأخرج من زقاق بيته، تلاحقني الظلمة وعيون حكامنا الجدد، وبنادق السحيجة الهتّافين تتربص بي بتنسيقٍ مع غرباء لم أعهده من قبل. بيدي ما أعاده لي من نقود، وفي رأسي صورة قلعتنا الجميلة القديمة، تُقبِّل أقدامها أمواج البحر، يداعبهما خرير مياه النهر، وأسوارها تعلو نحو فضاءات السماء. خضرة أشجارها تملأ الساحات بروائح البرتقال والليمون والزعتر والزيتون، ورائحة الريحان والميرامية والنعنع البلدي، بطعم العتابا والميجنا والدحيِّة والجفرا والطيارة والدلعونا، بحبات تينها المتدلية من غصون أمهاتها كنجوم مضيئة في وسط السماء. الحلم ـ الكابوس الذي لاحقني، كان مايزال يدق بعنف طيات رأسي، يحاول تحطيم قلعتي التي أعرفها، تدميرها وتحويلها إلى رماد وغبار متناثر على أبواب الصحراء، لتبتلعه وتحوله إلى زيت أسود وريالات.
ها هو يتمدد أمام خطواتي ويكبر، يتسع السجن مع كل حركة من حركات قدميّ، يحاول التمكن من الناس والشوارع والطرقات، الإمساك بحركة البشر والأفكار والمبادئ والأحلام، ليسحقها تحت قدميه ويلغيها من الحياة. أنا مازلت أمشي، إلى الأمام أسير، أتخطى العراقيل وأتجاوز المطبات، ورأيتني أشتاق للمرحوم والدي كما لم أشتق له من قبل. كم تمنيت في تلك اللحظة لو أنه مازال حياً يُرزق، كي لا أضطر لمثل مولانا الشيخ أبي محمد الأعور، حتى لو صفعني بكلماته قائلاً:
ـ ألم يتبقَ غير الأعور لتلجأ إليه ليريك الحقائق ويفسر لك الأحلام؟ أتريد من أعور أن يُنير لك الطريق يا دابة يا ابن الدواب؟!
عوالم روائيه مبتكره ولغه رائقه فصيحه تتناسب مع المضمون الواقعي فلا تزيد او تنقص على حساب المضمون ،من روائع قصص الراوئي محمد النجار
التي تحفر عميقا في الذاكره