الاديب : محمد نجار
الحكاية تكالب عليها المخصيون وعشرات السنين سيدي القاضي. كادت أن تدفنها الأيام وتمشي. ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، رغم ذلك لم تشِخ ولم تمت، ظلت حية إلى يومنا هذا، والله وحده يعرف إلى متى ستعيش، وهذا هو المهم في الأمر كله. المؤكد أنها ستظل تُجدد نفسها من تلقاء نفسها، ولو قسا عليها أصحابها أو بخلوا أو حتى تقاعسوا عن نسج حكاياها من جديد، فالتاريخ لا يتوقف عند أحد.
قيل عنها الكثير سيدي القاضي، قيل إنها ثابتة ثبات أشجار التين والزيتون، جذورها ممتدة عميقاً في أمعاء الأرض، تتشابك وتتحد في لحن ربانيّ مثير. راسخة رسوخ الجبال لا تتنازل عن مكانها التي منحته لها الجغرافيا وخصها به التاريخ ولا تبدله أو تغيره. تحافظ على كل ما لها من رمل وحجر وبشر وشجر، تحتضنهم لو
2 / 12
كانوا جثثاً هامدة، تضمهم في أعماقها ليكون لثمار التين معنى بعد أن تزرع فيه عصارتها وتمنحه طعم الشهد.
كان جدي في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر، يُعمّر الفرن وسيجارة الهيشي المقتلعة من “تتن” الحاكورة تتدلى من بين شفتيه. يداه تُذرّي كوماً من الجفت كما تذرّيان في الخلاء حبات القمح، يُدخله الفرن ويضعه فوق بواقي الجمر الذي غفا في ليلته الماضية مخلّفاً بعض رماد دون أن يتنازل عن جمراته. يتحول الجفت في لحظات إلى جمر أحمر يبث حرارته في الأرجاء كلها، ناثراً عبق الزيتون في كل رغيف خبز يدخل بين أحضانه ليتحمص قليلا. حين يتعب آخر النهار يصعد فوق الفرن، محتضناً الجفت متمرغاً في حرارته، التي طالما شبهها بحرارة حضن جدتي. يرتاح فوقه ساعة أو بضع ساعة، متدثراً بالدفء الذي ينفثه كوم الجفت في الهواء المشبع بزيت الزيتون. ظلّ معظم الوقت يخبز للقرية كلها دون أجر نقدي، لكن أهل قريتنا لا يأكلون حق أحد، كانوا يعوّضونه بالبيض والدجاج والفواكه والخضار، مع أننا كنا نملك منها الكثير.
كانت حكاياته لا تنقطع ولا تنتهي، والمرحوم والدي يتشرب الحرفة والحكايات منه كما ترتشف الإسفنجة الجافة بقايا الماء. يُخزّنها داخل ذاكرته ويغلق عليها بمفتاح، حتى لا تضيع مع هبوب رمال الصحراء والرياح الغربية الباردة، ليستحضرها من دولاب عقله حين الضرورة، شاهداً على صحة تجارب التاريخ المتراكمة. استمر من قصص الناس وتجارب القرية يصنع الحكمة، وأبي يُخزّن تلك الحكايات ويستلهم حِكَمها ليتلوها عليّ فيما بعد، كما تُتلى آيات من الذكر الحكيم.
صرت أشعر أن جذوري تمتد عميقاً في باطن الأرض لتعانق جذور التاريخ هناك، تناغي الفرن الذي بناه جدي في تلك القرية التي تكاد تلتقطها العين من جنوب لبنان، بناه بيديه وبمساعدة طفيفة من إخوته الكبار. أنا لم أكن موجوداً في ذلك الوقت، لم أُخلق بعد، جئت بعد أن اقتلعونا من جذورنا من قريتنا في الشمال، أين ومتى وكيف؟ لا يمكنني الجزم فأنا مثل الكثيرين الذين جاؤوا وحسب، لا يهم كيف وأين. المهم أنهم جاؤوا بجذور مقطعة وأوصال ممزقة، والله وحده يعلم كيف استطاعوا وصل جذورهم من جديد رغم طول المسافة ومرور الزمن. لذلك لم أرَ فُرن جدي، لكني أتخيله وأكاد أصفه لك حجراً حجراً تماماً كما وصفه لي أبي.
3 / 12
منذ ذلك الزمن صرنا لاجئين، وعمل والدي، في لاحق السنين، في فرن أبي خليل في مخيم عين الحلوه في لبنان، وصار يعجن ويخبز ويطعم المخيم كله. في المساء يجلس في ركن من أركان غرفتنا يعاتب الرب أحياناً ويستعطفه أحياناً أخرى. كنت أحس دمعاته وأنا في فراشي، دون أن أملك الجرأة بالإفصاح عن سهر حاسة السمع عندي إلى تلك الساعة، لكن الأكيد أن الله لم يستمع له في كل تلك السنين.
كان أبي محترفاً إلى حد الذهول، يُلاعب العجين بكفيه مثل ساحر، لا تكاد ترى حركة أصابعه، وفي مرات كثيرة يرمي الرغيف في زاوية الفرن البعيدة دون حاجة للمزلاج. لم ينسَ يوماً ذكرياته في قرية الشجرة التي هجّروه منها، مُنتزعينه من وسط كرم الدوالي وأشجار التين والزيتون. لذلك ظلّت قرية الشجرة في رأسه ولم تفارقه يوماً، وكلما تقادم الزمن كلما زادت رسوخاً في رأسه، كالنبيذ المعتق سيدي القاضي. زادت أقاصيصه لي عنها، وصارت أمنيته أن يختطف حزمة ضوء من سمائها بين جفنيه قبل أن يموت، لكنه بعد زمن مات دون أن يختطف تلك الحزمة التي تمنى وأراد.
صرت أنا الخبَّاز الجديد سيدي القاضي، كنت أعمل مكان أبي، في مخيم عين الحلوه قبل أن أنتقل مع القادمين الجدد الى هذه الأرض، التي اعتقدتها ستوصلني لاحقاً إلى قرية الشجرة. قريتي وقرية والدي وجدي اللذان لم يسعفهما الزمن ولم تساعدهما القوة في أن يقطفا من حقول سمائها ضمة ورد من ضياء ويموتان. ماتا قبل أن يريا قريتنا، قرية الشجرة، لعلك سمعت بها سيدي؟!
ـ ماذا؟ لم تسمع بها، ليس مهماً على أية حال، إنها هناك في الشمال، أبعد من صفد التي تخلى عنها سيادته، قال إنها لا تهمه. من لا تهمه صفد وحيفا ويافا هل ستهمه قرية الشجرة؟ “مجنون يحكي وعاقل يسمع” سيدي القاضي.
كنت أقف طوال نهاري على قدميّ دون آهٍ واحدة، دون ملل أو ضجر، أو حتى حالة تأفف، لأني ببساطة شديدة كنت أحب عملي. هل قلت كنتُ؟ لا بل مازلت أحبه، فأنا في متاهات تفاصيله منذ الصغر، لم أترك كبيرة أو صغيرة دون أن أتعلّمها حين كنت مساعداً للمرحوم والدي، وبقيت كذلك حتى غيبه الموت وأنا ما أزال مراهقاً.
لن تصدق أبداً أنه مات جوعاً والخبز بين يديه، قالوا فقر دم وقالوا هزالاً وقالوا أنيميا، لكن النتيجة واحدة وهي نتاج الجوع، أتصدق أن خبازاً يموت جوعاً؟! مات
4 / 12
هناك مكانه في الحفرة المقابلة للفرن تماماً، تكوّم على نفسه ولفظ بقية أنفاسه فارغ الجفنين رغم أن كل ما أراده حزمة ضوء يشم منها تراباً حاولوا سلبه، معتقدين أن الأكاذيب يمكن أن تصنع لهم تاريخاً، ما أسخفهم، هل يُصنع التاريخ بالأكاذيب؟!
كان رحمه الله خبازاً محترفاً سيدي القاضي، لم يترك رغيفاً واحداً طوال حياته يحترق، فبالنسبة إليه الرغيف المحروق وصمة عار في جبين خبّازه لن تُمحى أبداً، لأنك إن صنعت شيئاً عليك أن تصنعه جيداً أو أن تختفي خلف جهلك وتعانق المقهى وألعاب الورق.
ـ حاضر سيدي القاضي، سأتكلم عن نفسي فقط وأوجز، أعرف أن ليس لديك وقتاً تضيعه مع أمثالي.
مات واستلمت أنا مهنته، كنت قد تعلمتها وعشقتها، حتى قبل أن أكبر وتستطيع عيناي أن ترى ما بداخل الفرن. كنت أضع كرسياً في حفرة الفرن بجانب المرحوم ليزيد من طولي قليلاً، ورغم أنه كان يتعثر بي إلا أنه لم ينهرني من حواف قدميه.
كبرت، كنت أقطع من العجين كتلة صمّاء فأخلق منها رغيفاً ساخناً يتطاير منه البخار فخوراً مختالاً نحو السماء. أفرش تحتها بضع حبيبات من الطحين وكذلك فوقها كي أمنع محاولات إلتصاقها. أضغط الكتلة بأصابع يديّ الثمانية، أقلبها وأحملها وأناغيها وأدللها، فتنفرد أمامي وتتمدد كعاشقة عارية تنتظر حبيبها لتضمه بين أحضانها، لعله يُخفف قليلاً من ألم الجوى. أُلقيها في الهواء، فتطير متضاحكة وترتفع دائرة حول نفسها مثل عروس ترقص في يوم زفافها، قبل أن تتهاوى وتنزل بين كفيّ، تستدير وتتمدد وتظل كما هي كأنني رسمتها رسماً على سطح ورقة. لم تُثقب ولم تتمزق يوماً ولم يختلف شكلها ولم يتعكر صفو حوافها، أضعها على المزلاج الخشبي الذي أمامي رغيفاً من عجين. أضعها بعيداً على حافة الفرن المقابلة للنار، فقربها من النار يحرقها، وبعدها عنها يجففها ويسبغها بلون الموت. يجب أن تظل على مسافة مناسبة… لا ليس وسطياً سيدي، فالوسطية لا تصنع رغيفاً من الخبز بمذاق جيد. أبدأ بتحريك الرغيف وهو في مكانه، أجعله يدور حول نفسه كمخمور، ليبدأ اكتساء لون جديد. كم كنت أستمتع وأنا أراه ينتفخ وينتفخ ويبدأ بالاحمرار، فأحركه من جديد لتصل النار إلى كامل سطحه، ويتساوى عليه لون النار دون فروق، فالمساواة ضرورية سيدي حتى للخبز. بعدها أخرجه قبل أن تهزمه النار، ويكون
5 / 12
البخار مايزال يتصاعد من وجهه كما يتصاعد الدخان من مصباح علاء الدين قبل صعود الجنيّ وتحرره منه. لا أضع الخبز واحداً على ظهر أخيه قبل أن يبرده الهواء قليلاً، كيلا يتحول البخار الى حبيبات ماء تفسد الرغيف وتفسد أكله. في مهنتنا، مثل كل مهنة، هناك أسرار بدونها لن تصل إلى درجة خبّاز محترف كما كان المرحوم والدي وقبله جدي.
هكذا كنت أعمل من الفجر الى آخر النهار، كان معظم المخيم يشتري خبزه مني رغم وجود أفران أخرى، ترى رجاله ونساءه مصطفين ليشتروا الخبز الذي تصنعه يداي. نعم سيدي… قبل أن يُحرّموا الاختلاط ويُحرّموا المرأة جسداً وروحاً، وقبل أن تخرج الفتاوى بلفلفتها وبرقعتها وسجنها بين طناجر الطعام وعلى فرشات الجنس البارد، بعد أن كانت قد بدأت تقبض على البندقية.
جاءني جنابه في يوم صيفي قائظ، أنا في الحفرة أواجه النار وأتصدى لجحيم الطبيعة الذي فجّر ينبوع نهر من العرق يسيل من رأسي حتى خاصرتي. طلب مني أن آتيه في يوم الجمعة اللاحق، حيث كان يوم عطلتي.
ذهبت لمقابلته، وسألني:
ـ كم يعطيك أبو خليل مالك الفرن، أجرة في الشهر؟
قلت له بصدق المبلغ الذي لم أعد أذكره الآن، فقال:
ـ كيف استطعت أن تعمل عنده بعد أن قتل أباك؟
كان يريد زرع الفتنة بيني وبين أبي خليل، وهي مقدمة لفتنة بين أبناء المخيم الواحد.
أنظرْ إليه، هاهو يضحك من خلفك سيدي القاضي، إن كنت أكذب فليقاطعني، كيف يمكن أن يكون خلفكم أنتم القضاة أيضاً؟ عقلي سيتفجر سيدي القاضي، أجده خلف القضاة وخلف الوزراء ومديري المؤسسات وكل المسؤولين! بل صار بديلاً عن كل شيء سيدي القاضي، كيف يتم ذلك؟ كيف وصل تأثيره إلى كل شيء؟
أعرف سيدي القاضي أنه ليس من شأني، لكنه مجرد فضول… قلت:
6 / 12
ـ مات والدي قضاءً وقدراً، فالأعمار بيد الله.
قال:
ـ الأعمار بيد الله لكنه كان المتسبب في موت أبيك.
سكتَ هنيهة وكأنه يريد أن تدخل الكلمات ثنايا رأسي وتستقر فيه، قال:
ـ لو كنت مكانك لقتلته أو لتركته دون خباز وعملت عند غيره. على كل حال ليس هذا موضوعنا. موضوعي أنني رأيت مهارتك، واستشرت القيادة التي وافقت على تسليمك فرناً تخبز به للثوار، للفدائيين. هل تقبل أن تستلم فرن الثورة وتقوده وتترك أبا خليل، وبهذا تثأر من قاتل والدك؟
لم أعلق على جملته الأخيرة سيدي القاضي، لكنني قلت متسائلاً:
ـ فرن الثورة؟ كيف لا؟ من يرفض هذا الشرف؟
لم أكن أعرف أن للثورة فرنها الخاص، وأن للثوار فرنهم وخبازهم الذي يختلف عن فرن المخيم وخبازه، ولم أتردد في الالتحاق به. أعطيت أبا خليل مهلة ليجد عني بديلاً، والتحقت للعمل في فرن الثورة. كان جنابه، ربنا الله، قد زاد معاشي عشرين ليرة لبنانية كاملة، ووضع بجانبي مساعداً أيضاً، لأن عملي لن يستطيع إنجازه شخص واحد أبداً. صرت أعمل مثلما كنت أعمل هناك، لكن بزيادة طفيفة، قدر ساعة أو ساعة ونصف الساعة في اليوم الواحد، كي نستطيع أن نؤدي عملنا على أكمل وجه، ولا نترك الفدائيين يتضورون جوعاً. جنابه لم يُقصّر معي أبداً، دفع أجرتي قبل أن يجف عرقي، ربنا الله، وأحياناً عندما يزيد الخبز عن أكل الفدائيين كان يُحمّلني بضعة أرغفة لبيتي دون أن يأخذ ثمنه إلا آخر الشهر. يخصم ثلاثة أرباع سعرها وليس سعرها كاملاً، لأنها تكون قد فقدت سخونتها، أو ظلت الى اليوم التالي نائمة في مكان ما.
كونه في الأصل محاسباً، دخل الثورة ليضبط حساباتها، واستطاع ضبطها ولملمة تبعثرها لكن لتتوجه إلى جيبه. لقد كان واضحاً منذ البدء، حدد بوصلته جيداً، الهدف هو المال العام والبوصلة نحو جيبه كما قال الكثيرون. كان يأتي لي بفواتير
7 / 12
يومية أوقّعها عن عدد الأرغفة وسعرها، وكانت هذه الأرغفة بعدد ثابت كل يوم. كان العدد ألف رغيف في اليوم الواحد، لم تزد يوماً ولم تقلّْ، وأنا كنت أعتقد أنه عدّها أو على الأقل قدّرها بشكل تقريبي. جاء يوم واستدعاني أحد المسؤولين الكبار عن مخابز الثورة، أراني إحدى الفواتير بتوقيعي وبصمتي أيضاً، فرأيت بأم عيني أن العدد لم يكن ألفاً في أية فاتورة، بل تم تدحرج الأصفار وتحريكها لتصبح أرقاما كبيرة. كان جنابه قد حركها بلمساته السحرية الخفيفة، فجعلت من الأرقام الصماء الميتة فوق الأوراق جبالاً من النقود في جيبه. من يستطيع أن يفعل ذلك غير محاسب محترف كان قد دخل الثورة لضبط حساباتها؟!
لك أن تعدّ سيدي القاضي كم ألفاً من الأرغفة سُحبت من فم الفدائيين لتتحول للنهر المنساب مالاً قي جيبه كل شهر، دون أن يفرد بأصابعه الناعمة حتى لو رغيفاً واحداً، ودون أن تلفحه نيران الفرن ساعة واحدة، ولا حتى أن ينام ساعة واحدة في جفت الزيتون الذي ما زال يحتفظ لنفسه بحصة من الزيت. حينها تذكرت كلمات المرحوم والدي ناقلاً المأثور الشعبي “المال السايب يعلم السرقة”، ليس هذا فحسب، بل هو يسرق وأنا المتهم، فهل يحق لمثله أن يكون خلفكم أنتم القضاة في قضيةٍ المتهم فيها غريمه سيدي القاضي؟
ـ حاضر، سأسد نيعي مادام ليس من شأني…
لم أعلم شيئاً عن الأمر في مخيمنا اللبناني، وأخذني بمعيته لما رحلنا إلى تونس لأتابع إطعام الفدائيين هناك. كان قد سافر الى هناك قبل الجميع، فهو لم يكن من أنصار البندقية الفدائية، بل من أنصار تلك البنادق التي بحوزة الأنظمة، التي تُطلق للخلف سيدي القاضي. رحل قبلنا جميعاً، وكان يتحدث كثيراً عن السياسة والدبلوماسية والتكتيك، ويحب كثيراً أنصار السلام عندهم سيدي القاضي، ويلتقيهم ويأكلون اللحوم فقط دون خبز المخيم.
أنا لم أعرف شيئاً عن كل ذلك سيدي القاضي، أنا رجل بسيط لا يفقه إلّا في فن الخبز. وأنا “داهية” أيضاً، فأبي وأنا من صححا المأثور الشعبي القائل:”فلان لا يضحك للرغيف الساخن”، بحيث جعلنا “فلاناً” يضحك له رغم أنفه، بل ويقهقه عندما يراه. لكني فيما عدا ذلك أقر بما يقولون عني، أنني رجل بسيط وعلى باب الله، والقطة تأكل عشائي. البعض ممن كانوا يعرفون بالأمر وشمّوا رائحته التي تزكم
8 / 12
الأنوف، أوصلوا الأمر للقائد الكبير الذي كان يحب مثل جناب المحاسب ويُقربهم منه، لأنه كما قال بعض المخيم، يستطيع أن يقودهم كما يريد بعد ذلك، كالأنعام سيدي القاضي. بعد أن يمسك عليهم المماسك، يهزها أمام وجوههم الصلفاء، يشتمهم ويُهزئهم ويقل قيمتهم “بعيدا عن جنابك” وهم لا يجرؤون على الرد، بل يخرون له ساجدين. جلودهم تعودت على الشتائم ووجوههم على البصاق وضرب النعال دون أن يرف لهم جفن. قال القائد لمن أوصله الخبر بلهجة مصرية:
ـ ده حرامي وشبع حجيب ليكم واحد جديد يبتدي من الصفر؟
أبقاه محاسباً مؤتمناً كما كان، بل رفع من شأنه أيضاً لأنه زاد بصماً بحافريه كما قال الكثيرون. أكد البعض أنه فرك له أذنه واستعجله ليعرف نتائج لقاءاته مع “مشجعي السلام” من الطرف الآخر.
كان هذا قبل أن تنمو له مخالب وتكبر، قبل أن ننتقل إلى هذه الأرض من حمّام الشط، وقبل أن يبدأ بمد يده إلى ما تحت يد القائد الكبير، ليرثه ويركب فوق ظهورنا نحن العامة. ظل يعتبر نفسه أحد الأسباب الذي أوصلنا لما نحن فيه من هيبة وعنفوان وازدهار! وأننا لولاه لما كنا في مثل هذا العز الذي “نتمرغ” في خيره ونرعى كالإبل.
ـ أنا لا أستهزئ سيدي القاضي… حاضر لن أتكلم في السياسة، فهي التي أوصلتني للوقوف هذه الوقفة بين أيديكم.
بعد أن كبر وانتشر خلف كل شيء في البلاد، صار كل ريع الخبز يذهب إلى جيبه وليس الفرن الذي أعمل به فقط.
ـ “ما علينا” سيدي القاضي، أنا لن أتنازل عن حقي، المخيم كله إلّا البعض القليل يدعمني ويقف في صفي. تعرف سيدي القاضي أن المسحجين والمطبلين يتواجدون عند كل الشعوب وفي كل الأوقات، لكنني قررت أن لا يستحمرني أحد بعد الآن من جديد.
ـ نعم حقي سيدي القاضي، كيف لا؟ أنا لا أريد مالاً، أنا أريده أن يشرح لسيادتكم وهو الموظف من أين له كل هذه الثروة؟ من أين لأولاده وأحفاده كل هذه القصور
9 / 12
والعقارات والشركات والأملاك وأنا الذي اشتغلت وتعبت وليس هو. إحسبوا دخله على مدار العمر لتعرفوا بأنفسكم أنه لو عاش مائة حياة لن يكون لديه كل هذه الأموال، بينما أنا لا أملك كيس طحين واحد في بيتي.
ربما عمل بأشياءٍ أخرى، إحسبوها له، لكن عليه أن يُرجع ما سرقه من أموال خبز الفدائيين، وأموال خبز أهاليهم الذين كانوا يتلقون جحيم الطائرات في المخيم في كل وقت. إنه، سيدي القاضي، لم يكن في المخيم ولم يعش فيه يوماً واحداً، حتى إنه لم يمر فيه إلّا ليحادثني وأمثالي من البسطاء الذين يوقعون على الفواتير دون سؤال، ماعدا ذلك فلا شأن له بالفقراء.
إسألوه كيف استجمع كل هذه القوة بين يديه؟ ليس بالمال وحده بالتأكيد، وليس بالتسحيج والتطبيل والتزمير فقط، فعُلوّ النباح لا يجلب القوة ولا يشحذ النيوب ويُنمي المخالب. إسألوه كيف أحرق كل بنادق الفدائيين الذين أطعمتهم خبزاً من صنع يديّ؟ ومن الذي زوده ببنادق الأنظمة هذه التي لا يربطها رابط ببنادق المخيم.
لا أعرف سيدي القاضي لماذا لا توقفون ابتساماته المتتالية من خلف ظهوركم. أإلى هذه الدرجة بسط نفوذه وصار يمسك بكل مفاصل البلد؟
أتعرف سيدي القاضي، لو كان يتعامل معهم كما يتعامل معنا بنفس الطريقة والحدّة ما كنت غضبت، لكنه هناك يستجدي ويركع ويسجد تحت الأقدام، لا يجرؤ أن يرفع عينه في عيونهم وكأنهم يمسكون عليه المماسك وأوراق الإذلال. أمّا عندنا يمشي مثل طاووس، قلت طاووساً وليس نسراً سيدي القاضي، فمثله لم يكن نسراً يوماً ولن يكون، لا يعرف ولا يستطيع. للنسور صفاتها وميزاتها التي لن تتوفر به يوماً، النسور شامخة حتى في احتضارها، وهو ذليل حتى في أعتى قوته وغناه.
هذه صفات سيدي القاضي وليست قدحاً وذماً، وإن لم تصدقني ضعه أمام التجربة، أمام المواجهة مهما كانت طفيفة وبسيطة، ستجده في “الهريبة كالغزال”. كما تريد، أتعتقد أن الغريق يخاف من البلل؟ سجل تهماً جديدة إن أردت، فأنا “تحت المزراب” سيدي القاضي ولن تُخيفني أمطار الشتاء.
لا يعنيني من يكون ومن وراءه، المهم أصل الفتى، صفاته، معدنه، “سألوا البغل من أبوك فقال الحصان خالي. أتعتقد سيدي القاضي أن الحصان حتى لو كان
10 / 12
خاله كان قادراً على تغيير ماهيّته؟! يظل البغل بغلاً وإن إدّعى بأن الحصان خاله “حاشاك” سيدي القاضي.
لا أعرف لماذا تظل تقاطعني سيدي القاضي، فأنا أتحدث عن البغل، أنا إنسان بسيط وعلى “باب الله”، كلما قاطعتني نسيت ما أريد قوله. كما ترى فلا محامي لديّ يدافع عني وعن حقوقي، كما أنني سمعت أن المحامين في بلدنا لا يستطيعون “حماية مؤخراتهم”، كما أكدت أمي رحمها الله. أنتم القضاة، في عهده الميمون كما سمعت، صرتم تحاكمون الشهداء وتقتصّون من الفدائيين، أصحيح هذا أيها القاضي؟
سأقول لك “سيدي” إن نفيت هذه الأقاويل، وأكدت أنّ ما سمعتُه كذباً وتشويهاً، سأقول سيدي وتاج رأسي أيضاً، وإلا فلن تكون سيدي أبداً بل وستسقط من عيني إلى تحت حذائي ولن يرفعك أحد أبداً، تماماً كما سقط من يقف وراءك.
ـ لا سيدي لن أكون خبازهم، يستطيع اكتشاف صلة قرابته معهم كما يشاء وكيفما يشاء، “أبناء عمومة” فليكن بالنسبة له، لكنهم بالنسبة لي هم قتلة أبي الحقيقيين. نعم هم، فلولا تهجيرهم لنا لما مات أبي الخباز جائعاً تنخره الأمراض، ولما تيتّمت أنا وترمّلت أمي، لما كنا متهمين في العالم كله وكلٌ يركلنا بقدمه. لما كنت أنا هنا أقف أمام سيادتكم في قفص الاتهام، ولما كنت وقّعت على فواتير أحد لأملأ جيوبه مالاً. كلما امتلأت جيوبه مالاً كلما جاع الفدائيون الذين جئت خصيصاً لأطعمهم خبزي. ربما كنت مازلت في قريتي الشجرة، وعشت حياة طبيعية بين أبي وأمي، ولما مات والدي في حفرة أمام فرن في الغربة. لما جاع وبين يديه “حاكورة” البيت وزيتونات الحقل وزعتر الجبل وأرغفة الفرن التي يتماوج فوق وجوهها لون النار الذي أعطاها طعمه.
ـ لا… إنني لا أريد أن أكون “خباز السلام”، أرفض عرضكم لسحب التهمة عني مقابل ذلك، أريد أن أظل خباز الفدائيين، خباز المخيم وما يحيط به من قرى ومدن.
ـ ماذا؟ لم يبقَ هناك فدائيون! ليس مهماً، ما تبقّى منهم، مهما كانوا قلّة لن أتركهم يجوعون، “عاقل يتكلم ومجنون يستمع”، أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك، أتستدرجني لتعرف أماكنهم؟ سيعرفون هم مكاني إن لم أعرف أنا مكانهم، سيأتون هم عندي لأطعمهم خبزي.
11 / 12
ـ نعم أقولها بصوتٍ عال، وبكل ثقة أيضاً، أنا لن أتركهم يموتون جوعاً، كما لن أترك مهنتي تموت وأصابع يدي يضخ إليها القلب دماً. مهنتي مرتبطة بهم، بإشباعهم بعد أن جوّعوهم وأفقروهم وسحبوا منهم قوّتهم ورحّلوهم من المخيم إلى حمام الشط مبعدينهم عن حدود الوطن. كي لا يعودوا يشمون رائحة صفد والجليل وقرية الشجرة، كي يموتوا غيظاً وجوعاً واختناقاً. نعم، لقد اختنقوا بعد أن صاروا غير قادرين على التنفس بهواء الجليل الذي صار بعيداً.
رغم بساطتي فإني أعرف جيداً كيف حوّل سعادته معظم مَنْ عادوا إلى موظفين ومسحجين ومطبلين ينتظرون “مخالي العلف” في آخر الشهر، بعد أن اقتلع نيوبهم وقصقص أجنحتهم فلم يعودوا يحسنوا فن الطيران. من لا أجنحة له لن يستطيع التحليق ليرى القدس وعكا وطبريا ونتانيا وصفد والجليل، لن يستطيع السباحة في بحر يافا، ولن يعرف يوماً كيف تنتظرنا الناصرة وكفر قاسم ويافا عرائس بلباسها الأبيض.
أما أنا فسأجعل من العجين لآلئ من خبز، ومن الرغيف أنواعاً، سأزيد من حجمه ووزنه، سأضيف إليه “الملاتيت” وأرشها بالسكر. سأصنع لهم أقراص الزعتر والسبانخ وكافة أنواع المعجنات، وإن توافرت في جيوبي نقود سأشتري لهم اللحوم وأقطعها بنفسي وأصنع لهم “الصفيحة” ليستعيدوا قوتهم، المهم أن لا يجوعوا. الأساس هو الخبز، بدون الخبز سيدي القاضي ما فائدة زيت الزيتون والزعتر؟ ما فائدة الميرامية وإبريق الشاي؟ إنها تفقد قيمتها ولا يبقى لوجودها معنى.
سأظل أعجن وأخبز لأطعم الفدائيين ولن أتنازل أبداً عن هذا الشرف. هدّدْ كما تريد، فلن “يقطع الرأس إلّا من ركّبها”. أعيد مجدداً أنني لن أكون خباز “السلام”، فأي سلام دون أن أعود لقريتي “الشجرة” وتعود لي، دون أن يلعب أولادي في أزقتها وطرقاتها، دون أن أزرع حكورتها وأدهن خبزي بزيت زيتونها؟!
أعرف أنكم جميعاً كما الدجاح “لا تتحكمون حتى في بيضاتكم”، وأن روحكم في يده، وضميركم تفتت وتبعثر ولن تستطيعوا استرجاعه أبداً ولا حتى لملمة شظاياه.
أحكم كما تريد فلن يتذوق خبزي إلا من يستحق، الفدائيون وفقط الفدائيون. إفعلوا ما تريدون، فلن تثنوني عن قراري هذا أبداً.
12 / 12
في واحده من ابداعاته يلخص الروائي المبدع كامل المشهد السياسي في قصة الخباز والامر لا ينحصر في مشهد محدد كالمشهد الفلسطيني انما يعم كل مشهد سياسي فاسد في اي مكان من العالم …باسلوب سهل ممتنع ولغه معبره تلائم المشهد الواقعي
كل التقدير