الرواية ليحيى ابو شقرة
دمشق
الإهـداء
إلـــى
فرح جرار شام سعيد
حين يضيء القلب بفرح الشام
* * *
لا تبعثر كلماتك في ملوحة الأرض أو خواء الريح…
لا ّ تبددها بين جدران التجاهل….
احتفظ بها في القلب لغيمة من ندى المروج….
وأشجار من عناق الروح.
والـريح ّ تصـك السـماء تطبـق ّ بفكيهـا علـى وجـه الأرض،
حواف الأشجار، وتنهب أوراقها، بينما الليل يلتهم آخرمـا تبقـى
وها هو يجترها بهدوءمثيرللأعصاب. ّ من خيوط النهارالهاربة،
ّ يتلـوى مثـل خطـوات الطريق الصاعد نحو قرية (الزهرة)
، ويوسـف داخـل سـيارة الأجـرة يسـتعيد ٍ عاشق
في حب
متعث
تلك الساعات التي قضاها في رحلته قادما من دير الزور. ً
كان قادما إلى دمشق، إلى منزله، حيـث سيمضـي العطلـة ً
ّخذ قراراً الانتصافية،
ً: ً لكنه في تدمر ات
سريعا ومفاجئا
سأزور أختي (رهف) في (الزهرة) وأقضي عنـدها يـومين
من إجازتي، ثم أعود إلى دمشق.
هكذا مشت الفكرة في رأسه قبل حوالي ست ساعات، لم
يكن حينها يتوقع أنه سيصل الزهـرة فـي أول الليـل، حيـث لا
تستطيع في هـذا الطريـق أن تمي ، فالسـاعة السـابعة، ّـز الوقـت
تماما، مثل الساعة الثانية بعد منتصف الليل. ً
الغيوم ّ الدكن تسرع في ركضها لتـداهم القـرى المرتفعـة،
وتلقي عليها شرانقها السود ثم تبتلعها كأنها سمكة صغيرة بين
سمكة قرش. ّ فكي
هاهي الزهرة تلوح في ّقمة الطريق الصاعد من طرطوس،
بأنوارها الخافتة التي تظهر كلما تجاوزتهـا غيمـة، مـن دون أن
تعرف، من يبتلع الآخر: الزهرة أم الغيمة؟.
مع كل التماعة برق، كان وجه (حنين) ّ يطل، فيشتعل قلبه،
تلسعه العينان المتوثبتان للقاء طال مدة ثلاثة أسابيع، تتـدحرج
المسافة ويتضاءل المدى، يشبك يده بيدها، وحـين يضـحكان
تزف الدنيا بشرى لقاء.
في كل مرة يرجع فيها يوسف إلى دمشق، وخـلال طريقـه
الطويـل ّ المعف ر برمـال الصـحراء، كـان يكتـب لهـا الأشـعار، ـ
ّ وينمق الجمل والعبارات المدهشة. كان يصوغ العبـارات بـين
صـورا عـن خفقـات القلـب ً الرمش وحدقة العين، يرسم بهما
وذوبان الروح في أتون عشـق ّ متجـدد لحنـين المصـنوعة مـن
قصب السكر، وشتلات النعناع وآهات المسافات النائية. لكنه
حين يصل إليها لا يتبقى في الذاكرة سوى بعثرة كلمات، وكثير
من الندم لأنه لم يكتب ما تصاعد في داخله من وهج الكلام.
المطر المتساقط بغزارة، أجبـر النـاس علـى اللجـوء إلـى
بيوتهم، والريح تصفر في الطرقات الخاوية فتهتز معها الألواح
القصـديرية المضـافة إلـى أسـطح البيـوت، وتـرتعش النوافـذ
والمداخن والأبواب الحديدية.
قريــة الزهــرة تتربــع علــى مرتفــع ســاحلي، ّ تطــل علــى
طرطوس مثل إلهة فينيقية تحرس الشاطئ، فحين تصـلها تظـن
ّ أنك ّ تطل على بواكير التاريخ، تـا فـي زمـن
وأن قـدميك قـد زل
آخر يبتعد فيك سنوات وسنوات.
يقترب يوسف من بيت أخته، يقرع الباب… يطرق المطـر
وجهه… يعيد قرع الباب تختلط حبات المطر بما يشبه حبـات
العرق المنبعث من استطالة الوقت وخيوط الخيبة.
لا أحد…. لا أحد يجيب…. أعاد الطرق بقـوة لكـن مـن
دون فائدة.
توقف لحظات يفكر، مسـح حبـات المطـر الملتهبـة عـن ّ
وجهه، وقبل أن يصل إلى نتيجة، أطلت فتاة صـغيرة مـن بـاب
البيت المجاور.
ومن دون سؤال، قالت:
خالتو رهف ذهبت إلى المشفى في طرطوس للـولادة….
ثم أغلقت الباب.
شعر أن غيمة سـوداء قـد هبطـت فـوق رأسـه، وأنـه فقـد
الإحســاس بالمكــان والزمــان، التفــت دون إرادة منــه، ّ فلعــل
السيارة التي أقلته مازالت متوقفة، ّ لعل عطلا أصـابها، أو ربمـا
القدر جعلها تنتظر خيبته هذه.
أحدا لم يدخله منذ كان (قـدموس) ً الشارع بدا ّ وكأن ّ لكن
ما زال يبحث عن شقيقته (أوروبا) قبـل آلاف الأعـوام…. إنـه
يسمع صوته الآن… يقرع الأبـواب… يـردّد الصـدى حسـراته
ً بالأحزان. ً
فيمضي وحيدا مثقلا
ّـا عليـه، مـاذا سـيفعل فـي مثـل هـذا ْ َو
ق ُع الخبـر كـان قوي
الطقس البارد الماطر؟ وفي هذه الشـوارع الضـيقة الموحشـة؟
وفي قرية تبدو ّ وكأن دة، ولاشـيء أهلهـا هجروهـا دفعـة واحـ
يوحي بإمكانية مرور أي . ّة وسيلة نقل
وجه حنين وحده ّ يطل الآن موكبا من عزاء وصبر، وجهها ً
المندفع نحوه ليضمه داخل العينين المثقلتـين بالحـب، سـوف
ّ وتضمه خارج حدود المكان. تخبئه داخل خصلات شعرها،
اضطربت أفكـاره وتزاحمـت، أشـعل سـيجارة (حمـراء)
وهو يفكر في ورطته:
هل سيبقى وحيدا في الشـارع مـع حبـال المطـر وجـدائل
ً ستحمله معهـا إلـى حـدود مدينـة يـتلاطم الريح؟! أم أن
غيمة
فيها صمت الليل مع أصوات السكارى.
من مكانه، لاح له في منتصف الشارع ضوء صـغير يكـاد لا
وكأن قد نسي صاحبه الوقت ّ وتسمرداخله. ّه ّدك يلمح، ان صغير
ّحث الخطى إليه، مادÚا نظراته، يريد أن ّ يصدق ما يأمله قبل
أن يصل إلى مصدر الضوء، وقد شعر أن سقف العـالم يرتفـع،
ً مـن انتظامهـا، بينمـا
وأن أنفاسه المضطربة قد استردت بعضـا
الأرض تغور تحت قدميه الواهيتين وجسمه المرتجف.
ما الذي دفـع بـك إلـى القـدوم هـذا اليـوم؟ كنـت تنـوي
ّك جئت إلى طرطوس !!
الذهاب إلى دمشق لكن
ّد علـى الطرقـات وقطراتـه التـي
أهو حبك للمطـر المشـر
ً َ وشوارع تشبه الروح وتذوي في زوايا التفاصـيل
تنهب أرصفة
الضيقة للأيام التي تحلم يـا يوسـف أن تحولهـا إلـى ذكريـات
خافقة…أم ّ أن للخيبة َ طقوسـها وللجـرح ارتـداداً قـد يـدفعك
باحثا عن قبضة ملح !! ً
ّ تمتد الخطـى، وتتسـارع خفقـات القلـب، لكـن القـدمين
تتلعثمان… ّ تشدانه إلى الوراء كحلـم مـزعج… ربمـا خفقـات
القلب تعيق خطا القدمين.
ٌ: مـاذا لـو
Þ أبـح، مكلـوم
ّـه ّ متهـدج،
قال بصوت مكتوم لكن
أسلاك الكهرباء ؟… ماذا لو كان صاحب ّ وعم انقطعت الظلام
ى ّزر الدكان يضع إصبعه عل الكهرباء في دكانه ويستعد لإطفاء
ماذا لو أن هذا الضوء مجرد وهم وسراب….. ّ النور….
لهفة الوصول جعلتـه يشـعر أن الضـوء يبتعـد كلمـا ّ حـث
ً ثـم
خطاه…. وأن الأمل يتلاشـى، فـراح يغمـض عينيـه قلـيلا
ً. ً يفتحهما ليتأكد إ و
ّه بات قريبا
ن كان الضوء ثابتا إن
حاول أن يغمضهما لفترة طويلة بعـد أن ّ تفحـص الطريـق
أمامه…. وتأكد أنه لن يعثر بحجر أو حفرة….
حين فتحهما… كان في مواجهة الضوء…. الضوء النابع من
روح تعصمه، وقلب يتأجج بالأمل…. وحينها تطأ القدمان داخل
دكان قديم، فتلتهب حرارة الجسد، ويلفحه وهج غريب.
ّى من سقف الدكان، ورجل يبدو أنه
ضوء أصفر خافت يتدلـ
كئ على ّدكٍة خشبية عليها فراش قديم. قد اجتاز عتبة السبعين،متّ
ً لم يميزيوسف للوهلة الأولى إن كان الرجل
نائما . ً أمميتا
مساء الخير، قالها يوسف متردداً.
مساء النور… بتثاقل رد الرجل من دون أن يلحظ يوسف ّ أن
ّ
شيئا ك في هذا الرجل، حتى شفتاه ظلتا جامدتين. ًما قد تحر
ً بصره في أرجاء الدكان كي يجد شيئا ، يصـلح ً أدار يطلبه
شيئا
للشراء: علب سجائر، سكاكر، بعـض المـوالح والبـزورات التـي
غافلت الزمن وظلت صامدة على الرفوف ربمامنذ عشر سنوات،
صابون،مكانس، علب سردين وأشياءأخرىلم يستطع تمييزها.
كانت هذه الأشياء ّ مجمعة حول الرجل بحيث يستطيع أن
ّ يمد يده إلى ّ أي منها من دون أن يضطر للوقوف.
قرب ّ الدكة الخشبية حيث يستلقي الرجل مدفأة تموء النار
بداخلها علـى وقـع رتابـة إيقـاع يـؤنس مـا ابتـرد مـن الـروح،
وبجانبها كومة من الحطب تتهيأ للوثب داخل المدفأة.
– باكيت حمرا من فضلك.
ّمد الرجل يـده مـن دون أن يلتفـت إلـى مكانهـا، سـحب
العلبة ثم ّمدها إلى يوسف الـذي أزال قشـرتها العليـا وأخـرج
سيجارتين، ّقدم واحدة للرجـل الـذي لـم يتـردد فـي تناولهـا،
ّعته فأضاء بنورها الخافت
ووضع الثانية في فمه، ثم أخرج ولا
ً حيث يقف
جانبا . ً مظلما
قر ر الولاعة إلى السيجارة في فم الرجل الذي اعتدل ّب نا
ً على ً الدك ، فبانت قسمات وجهه وكـذلك عينـه ة الخشبية
قليلا
اليسرى المطفأة.
بادره الرجل بالقول:
اسحب الكرسي الصغير إلى جانب المدفأة، واجلس حتـى
ّ ّ تجف ثيابك،
لك المطركثيرا. هل أنت ضيف هنا؟. ً لقد بل
– نعم ضيف، لكنني وجدت باب الضيافة مغلقا
– لم أفهم، باب من؟
– بــاب بيــت أختــي (رهــف) زوجــة ماجــد ديــاب…
هل تعرفهما؟
ّيــة جيــدة، إنهــا
– نعــم، نعــم أعرفهمــا، أختــك مرب
معلمة ممتازة.
َ ْت إلـى مشـفى طرطـوس للـولادة، وأنـا جئـت
– لقد نزل
ً من دير الـزور – مكـان عملـي – باتجـاه
فجأة….. كنت قادما
دمشق، وفي تدمر قـررت المجـيء إلـى هنـا لزيارتهـا، لكننـي
وجدت نفسي في الشارع وحيدا . ً تحت المطر
ً إذا، عليك أن تذهب إلى كراج الضيعة، ً
هـو لـيس كراجـا
ً بل فسحة صـغيرة جانـب المقبـرة، أو أكثـر
قـد تجـد شخصـا
مضطرا لنزول إلى طرطـوس، وإن لـم تجـد وسـيلة، يمكنـك ً ل
العودة والمبيت هنا. أو إذا شئت يمكنك أن تمضي بقية الليـل
هنا حتى الصباح.
– سأحاول أن أجد وسيلة نقل، لكن أين يقع الكراج؟
– حــين تخــرج مــن الــدكان، عليــك أن تعــود إلــى أول
الشارع، وهناك تدخل في الشارع الأيمن وحين تصل إلى أخـر
بيت وبعدها بمئة متر تقريبا كراج. ً تجد المقبرة وبجانبها
لاح وميض أمل في عينيـه، ّ وهـم بالمغـادرة، لكنـه وقـف
وسأل الرجل مترددا:ً
لماذا أنت هنا؟ ولم تغلق دكانك… فشوارع القرية خاليـة
ولا أثر للحياة فيها؟
وقبل أن يجيب الرجل، كانت عينـا يوسـف تجـولان فـي
ً بانكسار رهيب
المكان الذي بدا مطحونا . ً ومعجونا
على الجدران التي مال لونها إلى السواد، استطاع يوسـف
صورا ، ورسومات كالحة، ً أن يمي عتيقة ّز
لا يجمع بينها سوى حشد تاريخي متسارع، وأيـام سـوداء
كهذي الجدران.
ّــز ملامحهــا: جمــال
صــور كثيــرة، لا يكــاد المــرء يمي
عبد الناصر، جندي يحمل بندقية، أنطون سعادة، ٌ ضابط يرتدي
ً، وفنانة أضاع السواد معظم ملامحها.
ّ بزة عسكرية
أعاد إليه صوت الرجل توازنه:
– هنا بيتي وعملي وحياتي وقبري.
– طولة العمر يا عم.
ّهز الرجل برأسه ربما من تقليديـة الـدعاء…. وربمـا لأن
ًمستبعداً…..
(طولة العمر) باتت أملا
ّـات ً بمعطفه
ّقـاء حب
ً ات
سار ملتفا ، وقد رفـع ياقتـه محـاولا
لعله يجد مؤنسا في الطريق، أو سيارة عابرة ً المطر ما أمكن، له
لم يجد أحدا.ً تسوقها الأقدار، لكنه…
* * *
ُ لـك
الحياة مخاتلـة مراوغـة، تغريـك بالأجمـل وتضـيء
مباهج فتنتها، ثم تمسك يدك وتقودك إلى عذاب الخيبات.
والمشكلة أنك تسير معها طائعا، كأنما ّمسك سحرها، ثم ً
ا… لا ٌ يد تمسـك يـدك ولا ٌ دليـل يعصـمك، ً تنتبه فجأة ووحيد
ولا تميمة تحمي روحك.
اجتاحته غيمة سوداء تكاد تلامس الأرض لتبتلعها، برودة
لحظات مـن الجنـون كـادت تحيلـه فـي ّ مهـب ّهدت أوصاله،
ّ الريح النشطة الآن… ما خـرج شـيطان مـن داخلـه وصـاح
كأن
بصوت مرتفع:
كراج قرب المقبرة؟! أم أنها المقبرة التـي دفعـك الرجـل
ً العجـوز إليهـا؟!! كأنـه يفتـدي روحـه بـك…
يقـدمك قربانـا
للآلهة… ها هي المقبـرة الموحشـة أمامـك… ّ تقـدم… ّ تقـدم
ّا أيها الأحمق. ّ إليها بخطوات ثابتة… ا
هي …هي
ِجــ ْد قبــرك بنفســك، أو فــاحفره بــذراعيك الــرطبتين
الباردتين، واقرأ Ýكل ما تحفظ من أدعية وصـلوات، ثـم ادخـل
ّا تقدم…
دائرة الجنون المحفوف بصفير الريح… هي
ِر يوسـف نبح ٌ كلب ته خطوات غريبة من نومه، لم يـد أيقظ
كيف خرج الصوت من تحت سـيارة متوقفـة قـرب آثـار بيـت
أعلن عزلته عن العالم منذ وقت طويل.
أعاده النباح خطوتين إلى الوراء، واستدار يريد العودة إلى
داخل القرية…
لماذا لم أوافق على عرض العجـوز حـين طلـب منـي أن
أقضي الليلة عنده؟!
ّ بدا له ّ أن طريق العودة باردٌ، ٌ موحش، سـتا تحـت
وقـدماه تيب
جسمه المتعب، فتوقفت خطاه قبل أن يأخذ عقله قراره بالتوقف.
وجه حنين يلوح مع كل رشقة مطـر، يلسـع وجهـه مثلمـا
تفعل النسمات الباردة المتراكمـة علـى ّخديـه، فيخـتلط البـرد
بالدفء ّ الندي.
ّمـا هزجـت غيمـة
يشتعل وجههـا فـي صـفحة السـماء كل
ّ أهزوجة الولادة والنور، بين أصابع اليدين وتنفلت إلى أفق
تمر
ّ بعيد، ت في تلك اللوحة الأولى
تماما . ً مثلما مر
ً ُجمعــت فيــه بعــض الأوراق والنفايــات
وجــد بــرميلا
والأغصان المتكسرة بفعل الهواء، فأخرج ولاعته ومـا هـي إلا
دقائق حتى كانت ألسنة اللهب تتراقص كأفعى هندية ّ مدربة.
شعر بدفء غريب فاق ما كان ّ يتصوره من هذه النار، أخذ
ً من سيجارته ثم أطلق دخانها الكثيـف والـذي بـدا
ً عميقا
ََفسا
ن
في ضوء النار كلوحـة سـوريالية تشـبه إلـى ّحـد بعيـد وضـعه
الحرج في ليلة شتائية أخفاها الزمن منذ أن استقالت المراكـب
الفينيقية من دورة البحر السوري الكبير.
من خلف ألسنة اللهب، بدت القبور الطينية المتناثرة وقـد
ّ تهدمت أجزاء منها.
ّحدق يوسف فيها وهي ّ تهتز وتتماوج مع اهتـزاز اللهـب،
تدنو القبور وتبتعد، تتراقص الصورة أمام عينيه، ولـم يكسـرها
سوى اهتزاز صورة رجل تراءى له من خلف النار، كأنـه شـبح
يقتحم اللهب المتوهج.
ّ تنمو الصورة وتكبر بـل، مـا اقتـرب أكثـر مـن
ّ تتضـخم كل
النار، تتماوج قسماته مفزعة، حتى كأن القبور قد نهضـت مـن
أماكنها، وكأن الأموات جميعهم قد انتفضوا لحرب همجية.
وهـج النـار يقتـرب، ّ وظـل رجـل يقـتحم ألسـنة اللهـب،
ً مـن صـمت
فاجتاحت يوسف رغبة انهمرت في داخلـه جـبلا
مفزع ووحشة مكان.
فرك عينيـه بقلـق، إنـه لا يحلـم، كـائن بشـري لـه ملامـح
ّ قدميه متجـاوزاً الإنسان ، لكنه يأتي من جهة القبور، ّ الحي
يجر
ظلال النار، ويقف قبالة يوسف مباشرة ثم يلقي عليه التحية.
للحظات لم ينتبه لخوف يوسف وجموده في هذه البقعةمن
الأرض التي تخل والإنسان والعقل والملائكة. ّى عنها التاريخ
ولم يطل الأمر، فقـد كـان ارتبـاك يوسـف وفزعـه ظـاهراً
ملموسا، فبادره الرجل الشبح بالقول: ً
أنا أسعد، إنسان مثلك، لكنني أقيم في غرفة منزوية لصـق
القبور، انتبهت إلى النار المتوهجة فجئت اسـتطلع الأمـر…إذا
ّا
كنت غريبا ، إن غرفتي تتسع لشخصين. ً فهي
ازداد ارتباك يوسف، وأمطرت في رأسه الأسئلة:
إلى ّ أي يوسف؟ قبر ستلتجئ يا
إلى أين تقودك خطاك العاثرة؟
وهذه الليلة الغرائبية ستطحن ما تبقى من عقلك وتحيلـك
إلى يوسف الوهم، يوسف السراب، يوسف الضائع فـي القبـر
بدل ّ الجب.
ابتسمت حنين في فضاء من السحب والمطر وبهيم الليل،
ابتسمت حنين كما لم تبتسم من قبل، وجه حنين سماء أخرى،
غير تلك السماوات المطلية بغبـار السـواد، وجههـا عبـق مـن ّ
الأحلام والغيوم ّ المضمخة بندى المطر وفوح الياسمين.
ساريوسف من غيرإرادة، قادتهقدماه قبل أن ّ يقرر عقلهالسير،
تماما . ًمثلما توقفتقدماهمنذ لحظاتقبل أن يقرر عقلهالتوقف
حينما دخل الغرفة، شعر بتفوق معنوي، واسترخاء في كل
أعضاء جسده.
تهاوى على ّدك لوها اسفنجة على شـكل فرشـة ة خشبية تع
ً مـا زالـت
ً أزليا
قديمة. وقربها كانت مدفأة الحطب تعزف لحنا
ً القرى تردده منذ آلاف السنين، ل لا يختلـف علـى جماليتـه
حنا
اثنان في أيام الشتاء القاسية.
ً، ثم فتحهمـا بسـرعة ربمـا ليتأكـد مـن
أغمض عينيه قليلا
ً مـن
ُْقـم الإبريـق قلـيلا
َل
حقيقة ما جرى، وكـان أسـعد حينهـا ي
السكر والشاي. ثم سأل:
-هل أنت جائع؟
لم ينتظرالإجابة، بل تناول عـن ّ رف خشـبي علبتـي سـردين
ً بالتأكيد أنت جائع، فالبرد الشديد ثم
ورغيفي خبز، ثم أردف قائلا
الدفءالشديد يشعران الإنسان بجوع مفاجئ ونعاس لا يقاوم.
– شكراً لك، لا أريد أن أتعبك.
ضحك أسعد وسأل:
لكن ماذا تفعل في هذا الليل الماطر، وفـي هـذه المنطقـة
الموحشة؟
راح يوسف يحكي وهو يأكل بسـرعة، وبـين حـين وآخـر
كان يتناول رشفة شاي كي يزداد شعوره بالدفء والاطمئنان.
قاطعه أسعد:
ـمة ذات سـمعة حسـنة فـي ّ عرفتها السيدة رهف.إنها معلـ
ً الضيعة، و معل
ـم ممتاز. ّ زوجها ماجد إنه أيضا
كان يوسف يمسح يده وفمه من آثار الطعام حين قال:
إذا كان وجودي في هذا المكان طارئا ، فما هـو ً هذه الليلة
سبب وجودك الدائم هنا؟!
– أنا حارس الحكايا، قميص الذاهبين في ضلوع الأرض،
وأنا القابع في ّظل الغياب….
دارت عينا يوسف في المحجرين… ثم نفضرأسه المستعر
بلهيب لا ينقطع من المفاجآت حين سمع تلك الجمل….
ً لشاعر، ّة سوريالية قادته
أي إلى هذا المكان لكي يقابل ظلا
أو طيفا لمتسول يقبع في أحد القبور، وقد نهضت روحـه الآن ً
ْقع من العالم؟! لتداعب وحشته المؤلمة في هذا ال Ýص
لم ينتبه أسعد لذهوله فقال وهو يشعل سيجارة:
إذا كنت تشعر بالنعاس فبإمكانك النوم، وإلا…فإن الليـل
مفتاح الحكايا….
سأجيب عن تساؤلاتك كل ، وإذا رغبـت فـي أن تـتكلم ّهـا
وتحكي فسأسمعك حتى النهاية.
ً؟
– هل تريدني أن أتكلم أنا أولا
– قالها يوسف وهو يكاد يتلاشى في المكان.
كأن يدا حنين قد سحبتاه إلى أعلى، حيث الحافلة ترتقـي
غيمة عابرة فوق قرية الزهرة.
* * *
ً وبعـد انقطـاع دام
حين قابلت يوسف قبـل سـنتين تقريبـا
ً، وكـان كـذلك…
لأكثر من إحـدى عشـرة سـنة، كنـت عجـلا
ً… فقد رمـى ّ إلـي بموعـد
صافحته وعانقته ولم نتحدث طويلا
أثار استغرابي بداية…
– لابــد أن نلتقــي يجــب أن أراك، لــدي الكثيــر مــن
ً في المقهى…
الكلام…ما رأيك يوم الجمعة القادم مساء
– ّ أي مقهى؟
– في باب الجابية مقهـى وحيـد لا يوجـد غيـره، سـألقاك
ً، هل يناسبك؟
هناك بالتأكيد الساعة السادسة مساء
– نعم يناسبني
مضى يوسف، ومضيت مع بداية ٍ أفكار صارت تلاحقنـي،
حتى تراخت أسئلة في ذهني واحتمالات متعددة.
كان الطقس باردا، والسماء تلقي بثقل ً التقينا يوم الجمعة،
حزنها مطرا . ً لا ينقطع
ّ
جلسنا في المقهى العابق بإرث من دخان متواصل اسـتمر
سنوات وسنوات….
المقهى شبه فارغ من الزبائن…الكسل والنعاس يسيطران
على مناخ المكان، وحده صوت المطر يـوحي بالحيـاة وقليـل
من صوت فيروز يتجول في المكان.
لم يطل تبـادل عبـارات الترحيـب والاطمئنـان بعـد فتـرة
الانقطاع الطويلة بيننا، ولم أكن أنا أرغـب بالمزيـد منهـا لـيس
بدافع الملل أو النفـور أو الضـيق، إنمـا بـدافع الفضـول الـذي
نهش دمي واستبد بتفكيري.
في تلك الجلسة، حدثني يوسف عن رحلته العجائبية إلى قرية
(الزهرة) حدثني عن التفاصـيل الدقيقـة منـذ لحظـة اتخـاذه القـرار
المفاجئفيتدمربالذهابإلى طرطوسلزيارة أختهفي الزهرة.
كان يتكلم وكأنه ما زال في غرفة أسعد، وكانـت مشـاعره
ً لـم يفـق منـه رغـم مـرور
وأحاسيسه تتبدل وكأنه عاش حلمـا
سنوات ّعدة على الحادثة.
كنت أصغي إليه بجوارحي كلها، حتى أنني كنـت ّ أتلفـت
من حين لآخر كي ّ أتأكد إن ُ كنت معهما في تلك الغرفة أم أنني
هنا في المقهى….
انتهى اللقاء على وعد بيننا بأن نلتقي كل فترة مـن الوقـت
وفي المقهى ذاته… لكي أقرأ له ما سأكتبه عن رحلته تلـك….
وهكذا كان…. استمر التواصل بيننا… كنت أقرأ وكان ّ يصوب
ً أخرى
حينا …. وفي ّمرات قليلـة كـان ً ويقترح تعديلات أحيانا
يطلب مني أن أشطب بعض العبارات….
* * *
يوم الجمعة مـن كـل أسـبوع، تسـترد دمشـق عافيتهـا مـن
وأنين الحراك ّ الإنساني المتواصل خلال باقي ـن الصخب، َ َوه
أيام الأسبوع في هذا اليوم ترتدي دمشق رداء النوم، وتسبح في
خيـالات قـد يسـتعيد بهـا النـاس ذكريـات سـنين بعيـدة تعـود
لترفرف مثل الصدى على ياسمينها.
إنـه مسـكون ٍ بـوهج َمع، يوم الجمعة هذا، ليس كباقي ُ الج
وبلفح نار، رغم أن الأمطار تنقـر مـن غيـر َع َجـل فـي الأرض
الصلبة لشوارع دمشق القديمة.
شـعر يوسـف منـذ الصـباح البـاكر ّ أن النسـمات الدافئـة
ّ تداعب وجهه، ات المطر تلامس دقات قلبـه المتوثـب
وأن حب
نحو المجهول.
كان قد وصل إلى مقهى (النوفرة) وقبـل أن يجلـس علـى
الكرسي لمحها قبالته مباشرة. كانت تجلس إلى طاولـة أقـرب
إلى الشارع، يـدها ممـدودة عبـر (الـدرابزين) فتسـتقبل بعـض
قطرات المطر استقبال عاشق لقبلات محبوبته.
ّلهـا ّ فارتـد
نظر إليهـا… ّحـدق…. فتوقـف الـزمن…. تأم
أمامه شريط من ذكريات بل هي ملامح رسـمها فـي خيالـه….
ً
أعاد ترتيبهـا لسـنوات خلـت…. تكـاد الملامـح تأخـذ شـكلا
مطابقا…. العينان…. ّ الشعر… الأنف والفم….. انسيابية اليـد ً
الممدودة عبر (الدرابزين)
إنها الحلم الـذي يتـراكم كـل ليلـة أمـام عينيـه…. هـاهو
ً…. اكتملت يكتمل الآن…. لم
تعد اللوحة ناقصة
واقعيتهـا…. هـاهي تـنهض مـن ورق ّ تكـدس بـين كتبـه
ودفاتره.
ّ استبدت به مـن النظـرة الأولـى…. وهبطـت علـى رأسـه
كلمات عن المطر والحب والعشق والعينين، أراد أن يرتبها في
جمل شعرية… لكنه تلعـثم. ّ ظـن أنـه قـد نسـي اللغـة وقواعـد
النحو والإملاء.
ً بالإعجـاب
في الحقيقة لم يكـن يوسـف سـابقا . ً متسـرعا
ٌ كثيرات ّهن صـديقاته فـي الجامعـة، وكثيـرات ّ هـن صـديقات
أخته رهف، Ýكن يزرنها في البيت، ولم يسبق لقلبه أن خفق ولو
ضع خفقات ّلأي . ب ّ منهن
ّة فتاة لا في الجامعة ولا في ّ الحـي الـذي
لم تلفت نظره أي
يسكنه، كأنما كـان يحلـم بفتـاة تكسـر حـدود الجمـال فتبهـره
بروحها، أو بتفاصيل خاطفة لا يعرف ماهيتهـا، وربمـا بطريقـة
انسياب النظرة بداخله فتشعل ناره وتكوي قلبه.
في هذه اللحظة (أم هيثم) وهي تحمل فنجانه ّ تذكر جارته
ّة بداخله، ثم تنظر إلى وجهه
وتتفحص تشكيلات القهوة الجاف
نظرة يغل شفاق: ّفها الإ
ستظل تلاحقها يا ، هـي وهمـك وسـرابك، خيباتـك ّ بني
المتلاحقة، ستسـكن فـي عينيـك امـرأة، كلمـا َ اقتربـت منهـا
هربت منك.
ً
داعبته نفسـه وقـد اسـتردّ المكـان، رشـف قهوتـه سـريعا
وطلب غيرها:
لعل ك يـا أم هيـثم متـأثرة بمـا يشـربه هيـثم مـن حشيشـة ّـ
الكيف….تقولين إنها وهم وسراب!!
إنها أمامي هنـا. تجلـس مثـل زهـرة ّ لو تنظرين إليها الآن،
ُعد
بري . ّة تلفت النظر إليها عن ب
هيثم يضع لك في سجائرك بعضا …. ً أو ّ لعل مـن حشيشـته
فتدورالأوهامبرأسك مثل حي ائعة بعد سبات شتوي طويل. ّة ج
ّت بقطرات المطر. ّ
حركت الصبية يدها وأدخلتها بعد أن ابتل
ّ انتظــر يوســف منهــا أن تلتفــت، هــا
أن تحــرك نظرهــا عل
ّـر بنظراتـه الملهوفـة نحـو
ً تلحظه، من عينيهـا يتعث
أو ّ لعل طيفا
موجة ربما لن تتكر . ّر
كان عليه أن يمر (جبلة) في طريقه إلـى Ý قبل سنوات، بمدينة
ً اللاذقية، وكان عليه أن يدخل مقهى (الزوزو) من
ليشرب فنجانا
ً القهوة، ويغازل البحر الهائج والرياح تسوطه، فيندلع يكـاد
موجا
يلامس نوافذ المقهى المرتفع عدة أمتار عن سطح البحر.
تتراكض الأمواج مسرعة نحو الصخور،كأنهـا تحتمـي بهـا
من لهب الريح،كل موجة تحمـل صـورتها المشـتهاة، لا موجـة
تكر ، ولا ريح تهدأكي يرسو يوسف على ّرفي ثناياها صورة لفتاة
ً، وتنـزاح عيـون متلاحقـة
وجه حبيبته، صورتلاطم بعضها بعضا
بين الزبد، حتى لكأن فنجان أم هيثم مرسوممن تلك الموجات.
الآن يستردّ يوسف موجاته، ينتظر من الزبد المهيمن علـى
المكان أن ينقشع.
ً وتجعله يعـانق ميـاه البحـر
ّ لعل التفاتة منها تحيي فيه أملا
ً بها، ّ لعل النشيج بداخله يهدأ ويستكين.
مغتسلا
لكنها ثابتة… ترشف القهوة بهدوء يحرق أعصابه، فيندلع
البحر عنيفا، ّ وتتبدد روحه مع رذاذ الماء. ً
جـر ، وراحـت الكلمـات ّب أن يفصـح عـن حالـه لنفسـه
تتسر ين شفتيه هامسة للروح والـنفس، شـيء منـه، مـن ّب من ب
وأخـرى ممـا مـر … جمـل ّ بوحه المكنون، بـه أيـام المدرسـة
وعبـارات لا رابـط بينهـا سـوى شـهقة الحيـاة الأولـى ولهفـة
يوسف باستعادتها.
… هي حياتك يا يوسـف فاغتنمهـا… ابحـث عـن القيـد
الذي يكب … واكسره. ّل فمك وعقلك
فلتخرج مـن البئـر يـا يوسـف… فلتخـرج مـن كوابيسـك
الليليــة… مــن ذلــك الصــوت الــذي يباغــت عمــق نومــك
ّراً: ً باستمرار…
صارخا، مدم
يـا يوسـف… ملوحـة المـاء تطحـن حلقـك فـي البئـر…
ً لكي يخالط دمك المـاء
والصمت يلتهم صوتك… انزل عميقا
المالح ّ فتطهر به خيباتك.
أو… ُ فانج يوسف، انهض إليها وخذها تحت المطر، فـي
الشوارع الدمشقية القديمة، دع أصـوات الأقـدام تـردّد أغنيتَهـا ّ
ُ
ّـان أن ُ تلك الحجارة
والتـي لـم يسـتطع ّ أي الصلدة للشارع، فن
يصوغها مثلما تستطيع أنت أن تفعل ذلك.
مالت بنظرة عليه، فانكسر الوقت، ّ وتجمدت قطرة من المطر
ً في الهواء
ّ لؤلؤا … تماما ق بين روحه ً معلقا
مثل حال يوسف المعل
المعل في منتصف المسـافةبـين قـاع ّ وحبله Þ الس ّري،مثل يوسف ق
وهما . ً البئر وسطحه على شفا حبل قد يكون… وخيبة
أي أرض سترســو عليهــا الآن يــا يوســف، وأي هــواء
ً بعد اليوم.
سيدخل رئتيك ليعبث بك داء
لم يكن يدري أن هذه الابتسامة ستسبق نهوضـها السـريع
ّــئ
والمفــاجئ، وإلا… ربمــا ّ اســتعد لــذلك، ولحــاول أن يهي
لموقف يردّ على نظرتهـا الطارئـة بابتسـامة أو بكلمـة أو حتـى
بإشارة عين.
مضت بهدوء سريع، مضت بلوعة الغياب، انسحبت بعـد
أن فاح المكان بألقها، وفاض قلب يوسف بأنوثتها الطاغية.
سار يوسف في الطرق الخاوية، كأنما يسـير علـى حـواف
ً آخر.
ً ويسرع حينا
قلبه الخاوي، ّ يتمهل الخطى حينا
لا يـدري ّ أي بحـر قـذف بهـذه الموجـة إلـى شـاطئه ثـم
استعادها في غفلة من الروح.
راح يوســف طــوال أيــام الأســبوع يســتردّ مــا فاتــه مــن
التفاصيل الضيقة…جلستها…هدوءها…حركة القدمين وهمـا
تهتـزان تحـت الطاولـة بإيقـاع رتيـب…يـدها المبتلـة بحبـات
المطر…طلاء الأظافر الذي بـدا كلوحـة فنيـة حـين اسـتقبلت
يدها الصغيرة ّخدها، فبدت أصابعها وكأنما قـد صـنعتها آلهـة
الحب لكي يخلدها فنان بلوحة أو بقصيدة.
رحـت ّ أفك اختلطت المشاعر، واضطربت الأفكار، ـر فـي
تلك الدقائق التي مر أقـبض علـى الموجـة…. ّت مـن دون أن
كيف انسابت من بين أصابعي، وكيف تباطـأ القلـب أن ينفـتح
لتخرج منه عصافير الكون وأزهاره…. فتحوطهـا وترسـم لهـا
حديقة ّ مسيجة بالنجمات….
ُعر …. بـل حتـى إنهـا لـم تشـعر ْنـي ّ أي اهتمـام
لكنها لم ت
ربما هي تحل …. ّق ّ بسمو بوجودي…. فوق عالمنا الأرضي
– أمسكت القلم لأكتب، لكن مفرداتي كانت تنساب مـن
غيظ ووجع:
المغرورة، المتكبرة، فتاة على الهامش، القلب المكسـور،
السراب، الخيبة.
لكن في المساء، كانت لغتي تتحـول ّ وتـرق وتنفلـت مـن
خيالي لغة أخرى مرهفة:
موجةالأمنيات، شهقةالبحر، غيمةالعطر، ابتسامةالصباح…
طلبت من أمي أن تدعو الجارة(أم هيثم) لشرب فنجـان مـن
فاستغرب ْت أمي الأمر، ومع ذلك لم تتردّدفي دعوة الجارة. َ القهوة،
وبهذه الدعوة أكون قد أدخلـت نفسـي فـي دائـرة الحيـرة
القاتلة، والرغبة في الغوص أكثر في عمق البحر.
لكأنما صرت نقطـة ّ بـن صـغيرة فـي الفنجـان، تـدور بـي
ً ثم استقر في قعره…. ومع كل رشفة ّ ترتج القهوة Þ رغوته
طويلا
ويسحقني تيارها.
وفـي ّ عينـي قالت أم هيثم وهي تحملق في الفنجان تـارة،
تارة أخرى:
ستبتلعك الموجة، وتنهب قلبك…
– ما رأيك بكأس مـن العـرق؟…قـال أسـعد وقـد أدرك
مقدار انفعال يوسف.
– لا بأس رغم أنه لم يسبق لي أن شربت العرق كثيراً.
بدا الاستغراب علـى وجـه أسـعد…كـل هـذه العواطـف
والانفعالات ولا تشرب العرق كثيراً؟
مذاق خاص حين يمتزج برعشة المطر ولسعة ّ الحب المتغلغلفي تلك الفترة الشتائية كنت أستطيب النبيذ…نشوته لها
في أعماق الروح، هو الوحيد القادر على جعلـك تغـوص فـي
واحة عالمك الداخلي.
– كيف يكون الوحيد وأنت لم تجرب غيره؟
ملأ أسـعد كأسـين كبيـرتين مـن العـرق المكسـور بالمـاء
البارد، وقرعهما… ثم رشف كل منهما رشفة دافئة..
فتح باب المدفأة ووضع قطعـة حطـب كبيـرة، وقـال مـن
دون أن يلتفت إلى يوسف
ً هـذه المـدفأة
ً ونفسـيا
Þكل حدث له ترجمة خاصة، إيقاعيا
تتـرجم لـك صـوت الهـواء المجنـون فـي الخـارج، الممتـزج
بآهات الحطب المحترق ّ فتلون لك نغماتها.
الأشجار تترجم إيقاعات حبات المطر النازفة مثـل جـرح
تظنه لن ينـدمل… وهـذه القبـور نفسـها تتـرجم حكايـات لـو
تسمعها لظننت نفسك من عالم آخر.وعلى سطح البحر ترسـم
حبات المطر وجدائل الريح إيقاعات وترانيم يندر أن تسـمعها ّ
على سطح اليابسة.
لذلك قد تنفلت مشاعرنا في لحظة خاصة جدا… فتعطـي ً
إيقاعها الخاص.
دارت الغرفــة، ودارت الأغنيــات، ودار الــزمن فــي رأس
يوسف….رشف رشفتين أفرغتا الكأس… فطلب المزيد.
* * *
الأمل الأخير هو يوم الجمعة. قال لنفسه:
..ً
ســأذهب إلــى المقهــى فــي الســاعة التاســعة صــباحا
ً. فعنـدما قابلتهـا فـي
وسأجدها… لا… فـي التاسـعة إلا ربعـا
المـرة الماضـية، ُ جئـت أنـا فـي التاسـعة وكانـت جالسـة فـي
المقهـى، هـذا معنـاه أنهـا حضـرت قبلـي أي فـي التاسـعة إلا
ربعا… أو في الثامنة والنصف…. إذاً سأذهب في الثامنة…. ً
خطواتــه المتأنيــة لا تشــي بهدوئــه، بــل ّ إن رتابتهــا هــو
استحضار للرغبة الكامنة في ملاقاتها.
الساعة الآن الثامنـة والربـع مـن صـباح الجمعـة، حبائـل
المطر كأنها متّصلة لا تنقطع منذ أيام، لكنهـا حـروف تريـد أن
تخبئ فيها طلاسمها الموهومة. ّ تنسج حكاية
ٌكسـرت رتابـة
ٌ ّبريـة
علـى بعـد خطـوةمنـه، انـدفعت موجـة
خطواتــه، فتلعثمــت قــدماه ّ وجــف الكــلام علــى شــفتيه، ســارا
متجــاورين عــدة خطــوات…. كانــت خطواتهــا أســرع فبــدأت
وكانت خطواتهأضيق كثيرا ، فبدأ يتأخر عنها. ً تتجاوزه، من أمنياته
حين اجتازته بخطواتها المتسارعة… لمحها… فارتطم ّ بظـل
وجوده… نهضت أحلامه من وكرها المغلق، مثل مارد انفتح باب
ً في حنجرته.
ّر… وتلعثم الصوت مبحوحا
قمقمه…. كاديتعث
وحين انتبه من تلعثمه، قال بصوت خرجت بعض حروفه
مبحوحة جافة:
– صباح الخير.
التفتت إليه مع ابتسامة لطيفة:
– صباح النور.
– ِ تأخرت….
– من؟ أنا؟ متى؟
ً
ً… منذ أسبوع وأنا ّ أتلمس وهمـا
ً كاملا
– ِ تأخرت أسبوعا
ً نسجتُه أنا.
ِِه ِ أنت، وأملا
تركت
– لا أفهمك.
– لأنك لم تعاني مثلي….
– أعاني! ّ ومم أعاني؟
هل أستطيع دعوتك لتناول القهوة؟
قالت وقد اعتراها برود ممزوج بشـعور الفخـر الـداخلي،
حاولت إخفاءه تحت ابتسامتها:
.ً
– ممكن طبعا
جلسا متقابلين في ً مقهى يكاد يخلـو مـن الزبـائن، انطلـق
لسانه بأحاديث ّ متعددة كأنمـا كـان يريـد أن ّ يقـدم نفسـه علـى
تام، وكان يشعل سجائره كمتوالية حسابية. ٍ وبوضوح عجل
– تدخن بشراهة!
– الآن فقط.
– ولماذا الآن؟
– خلال الأسبوع الماضـي كنـت أمسـك السـيجارة كمـا
كنت تفعلين أول مر … ّة رأيتك فيها
… لقد حاولت كثيراً استحضار تفاصيلك.
– ماذا؟!!
– أنا أعرفك منذ زمـن، كنـت أبحـث عنـك منـذ رأيتـك
تعتلين أمواج جبلة، ربما لا تعرفينه (مقهى الزوزو) مـن هنـاك
هو لم يكن بحـرا، كـان موجـات متلاحقـة، ً ُ نظرت إلى البحر،
ترتسم عليها صورتك
– أعرفه…
– من؟!
– المقهى… أنا من جبلة.
بدت دهشة خفيفة على وجهه….
– ألم أقل ِ لك؟ لقد ِ رأيتك هناك في جبلة… ذات شتاء…
ذات مقهى… ذات موجة… ذات حياة.
ضـحكت حنـين ضـحكة امتـزج فيهـا شـعور الإعجـاب
بالنفس مع رن . ّة الطفولة العذبة
– ِ ضحكتك جميلة.
– عيونك الجميلة.
ض الآن تصــعد ســل ، ّ وكــأن يوســف ّ كــ ّ أن الأر م الســماء
يقطف موجة ويخبئها بين ضلوعه.
– هل أستطيع أن أراك مرة أخرى؟ أو… مرات؟
– لماذا؟
– لأنني أحب أن أراك، ولأنني أريد أن أحكي وأقـول مـا
أخبئه منذ ألف عام….
– ألف عام !!
– كأنك تخافين الكلام…
– لا… أبداً
– هل ِ سأراك؟
ً… أنا هنا.
– كل يوم جمعة صباحا
– وغير الجمعة؟!
– لا أستطيع فأنا أعمل… ودوامي طويل.
– أين تعملين؟
ً أضطر للنوم هناك.
– في معهد الأحداث… أحيانا
مضت جمعات كثيرة، واللقاء يتلوه لقـاء، وقـد تجـاوزت
الأمور مجرد الجلوس فـي المقهـى إلـى التجـوال فـي دروب
دمشق القديمة.
ُ كنت أحاول أن أكسـر Ý كـل الحـواجز، وحـين ّ أظـن أننـي
ً
فعلت كنت أكتشف أن بعضها مازال قويا . ً ثابتا
قلت لها يوما:ً
ّما ّظن المرء أنه قد اقترب منه كثيراً إنك مثل الطاووس.
كل
وأنه على وشك الإمساك به اكتشف وهمـه إذ ينفلـت مـن بـين
ّ لكنه لا يبتعد كثيرا، ه بين يديك ً يديه…
ويوهمك مر . ّة أخرى أن
ردّت بضحكتها المعتادة، واستغرق هو في تأملها. ثم قال
كمن يكشف سرا: Ú
منذ رأيتك في اللحظة الأولى، شعرت أنني أبحـث عنـك
منذ سنوات، حيث مقهـى الـزوزو فـي جبلـة، وحيـث المـوج
المتمر . ّد على بحره
ردّت من دون أن تنظر إليه مباشرة: أعرف.
وكيف ِ عرفت؟ مع أنك لم تلتفتي ّ إلي الأول. – في اللقاء
– صحيح أنني لم أنظرإليك، لكنني كنت أشعربنظراتك.
ً استجمع قواه، وضبط إيقاع يديه، و كـي
أفرد لقلبه مجـالا
يتفل . ثـم أطلـق صـوته ّت من القيود التـي ورثهـا عبـر سـنوات
ّ المرتجف بكلمة (أحبك) ـل حينهـا أن طيـور دمشـق
وقـد تخي
ستفرد أجنحتها ربما فوق الغيوم، وأن جبلـة ببحرهـا ومقهاهـا
صارت أدنى إليه من حبل الوريد.
ً…قالتها بنعومة أقرب إلى البرودة.
– وأنا أحبك أيضا
– ماذا؟!…أعيدي…لم أسمع ولم ّ أصدق.
– قلت: إنني أحبك كصديق أحترمه و ّ أقد ُر مشاعره.
ً علـى قلبـه
هبطت الجملة الأخيرة جدارا وروحـه، ً قاسـيا
، وعادت جبلة ببحرها ومقهاها إلى حيث شـاءت ّ فحط الحمام
الآلهة منذ آلاف السنين….
ازدادت حب ، ّ لكن يدها ّات المطر قساوة على وجه الشارع
التي امتدت لتلامس يـده عـادت لتقـر ، فتحملـه ّب المسـافات
موجة وتتقاذفه موجات.
في داخله كان العقاب، ومن روحه اشتعلت الأحجيات:
هل تحبني وتريدني أن أبـوح بمكنونـاتي؟ أم أننـي مجـرد
وتعتز بصداقته؟!
صديق تحترم
ّة وخشية: اسمع ما سأقوله
ضغطتيدها على يده وقالتبجدي
لك:لو أنني قابلتك منذ عامين لكنت أحببتك بالتأكيد، وأذبت لـك
كل شموعي،كنتسأحرقمراكبي كلها عند شواطئ روحك.
– ولماذا قبل عامين؟
ً ومازلت أرتبط به….
– لأنني منذ سنتين أحببت شابا
كانت تكمل حديثها بينمـا يوسـف قـد غـاب فـي عـذاب
ً ّ قدري
َ عناقـا
ُ حـواء
، ربما فرضته إلهات الحـب منـذ عـانق آدم
أنجبا بعده آلاف المحبين الـذين دخلـوا شـرانق لا نهائيـة مـن
عواطف تتصارع فيها النفوس.
ضرب أسعد يده على الطاولة، وبيده الأخرى قلب كـأس
العرق في جوفه، كأنما اشتعلت ذكريات نفسه وفاضـت لـتملأ
ً برائحـة العـرق والمطـر
ّجو واحتـراق الغرفـة عطـراً ممزوجـا
الخشب ّ المندى داخل المدفأة.
قمة المصائب أننا نعيش مآسينا مرتين:
مرة حين نعيشها حقيقة، ومرة أخرى حين نستدرجها إلـى
الـذاكرة بقسـوة ثـم نرويهـا. إذ ذاك تبـرز التفاصـيل ببشـاعتها
وقساوتها. وتبدأ النفس بالبحث عن أصعبها وأشدها لوعة.
أما أفراحنا فهي تهـرب مـن بـين أصـابعنا سـريعا، وحـين ً
نتذكرها نبتلع أسى فقدانها، إذ نشعر حينها أنها تغادرنا كقطعـة
ً مثلمـا يغادرنـا طـائر فتحنـا لـه بـاب القفـص
من روحنا. تماما
فحل نا. ّق بعيداً لتعود خيبتنا وتخبو نار الألق في
ساد صمت قصير، قطعه أسعد بعد أن أفـرغ مـا بقـي مـن
الكأس التالية في جوفه:
ثم ماذا؟ إلى أين وصلت الأمور مع حنين؟
– توفي والدي وانقطعت لقاءاتنا مدة ثلاثة أسابيع.
ودمعة تصل ، فعـاد ّ ّ غص حلق يوسف بحرقة، بت في عينيه
الصمت من جديد.
لكن أسعد قطعه هـذه المـر بـاب الغرفـة ّة بـأن خـرج مـن
ً ليخـتلط بحبـات المطـر
وأشعل سيجارة أطلق دخانها خارجـا
النازف من جرح غيمة وسماء متوق . ّدة
* * *
ّ
كان موت صالح والد يوسف دراميا راً، إنـه النمـوذج ً مـؤث
الأمثــل لسلســلة طويلــة مــن الآبــاء المــرتبطين بجــذورهم
وأجدادهم… وهذا الارتباط العاطفي المرتكز علـى مجموعـة
من القيم المدرسية والأخلاقيـة والدينيـة قـد تحطـم فـي ليلـة
واحدة ودفعة واحدة.
ً وهو يبحث عن جـذوره
ً فتيا
منذ كان والدي (صالح) شابا
وأصوله.
لم يتـرك مسـافراً إلـى صـقع مـن الأصـقاع المجـاورة إلا
وكلفـه مهمـة البحـث والاستقصـاء، لـم يسـمع برجـل يهـتم ّ
بالأنساب أو مرجع في مكتبة إلا وعاد إليه يتفحص تاريخه.
ولأجل ذلك نقش شجرة العائلة على حائط كبير في غرفة
الضيوف، رسمها بالألوان المزخرفة المزركشة، وكان في أيـام
العطـل والمناسـبات الرسـمية يتفـرغ لتنظيـف الحـائط وإزالـة
الغبار عنه، وكان يعمل على ترميم بعض الأغصان التي بهتـت
ألوانها فيعيد لها لمعانها.
وأحيانا يـر ألـوان بعـض الأغصـان، ً كـان يعمـل علـى تغي
ً أخرى، ورغم أنه كان يستشير أفراد الأسـرة
ويستبدل بها ألوانا
بالألوان الجديدة، إلا أنه لم يكن يفعل ذلك إلا بعـد أن ينتهـي
من عمله.
لم يكن أحد من أفراد العائلة يجرؤ على توجيه ملاحظـة،
أو إبداء رأي مخالف لرأيه، فهو فيما ّ يخص هذه القضية، حـادّ
المزاج، سريع الانفعال، مع إنه في تفاصيل حياته اليومية رجل
، ويخـدم كـل فـرد مـن ّ يحب في منتهى الطيبة والصبر، الأسرة
أفرادها كما لو أنه الابن الأصغر فيها.
ً، كـل ً
ها هي شجرة العائلـة تنمـو ّ وتمتـد غصـونا وفروعـا
ً بلقبـه (النشـوان). بـل
غصن فيها يجعل(صالح) أكثر التصـاقا
ً صـاخبة فـي خلايـا
ّ لعل موسـيقا الأرض كلهـا تعـزف ألحانـا
جسده… ها قد وصل إلى الجد المئة:
همام بن عبادة بن راسم بن قتـادة ابـن…. ابـن… كـذا…
ابن مالك السحجي.
وكالعادة، لا بد في هذه المناسبة من احتفال صـغير ّ يضـم
العائلة، والجيران المقربين، احتفال خـاص، يقـدم فيـه صـالح
ّ ّجده الجديد، و ق اسمه على فرع جديد لغصن مـن أغصـان
يعل
ّن حروفه بدمه الذي
شجرة العائلة، كأنما يحفره بضلوعه، ويزي
ر . ّ يكاد يتفج من مسام جلده
ً، مـن
ً توقف يوسف عن الكلام قليلا
ً عميقـا
سـحب نفسـا
سيجارته ورشف من كأسه رشفة أفرغت نصفه….. ثم قال:
غريبة تلك العجائبية التي تحكـم حيـاتي، عجائبيـة القـدر
Û كـل ً المدهشة، أشعر أنني حبيس بين جدارين ينـدفعان
أحيانا ،
ً باتجاه الآخر، و
أحيانـا فـي الاتجـاه ً أشـعر أننـي أذهـب دائمـا
ً الخاطئ. أن
وحتى لو كنت بين خيارين فقـط فأنـا أدرك سـلفا
ر الذي سآخذه هو الخاطئ حكما.ً الخيا
إنها عجائبية مدهشة… وهل هناك أعجب من هـذه الليلـة
التي قادتني إلى هذه المقبرة… أحكي فيها عن حياتي وأشرب
العرق وتدور بي الـذكريات كأنهـا دوامـة نهريـة تجرفنـي إلـى
داخل الأرض حيث الأموات هنـا ربمـا يجتمعـون فـي سـهرة
ذكريات من حزن وألم.
ومن دون مقدمات تابع يوسف سيرته الأسرية.
بدأت السهرة بحضورالعائلة، وأربع عـائلات مـن الجيـران،
أولئك الذين صاروا يعرفون جذورالعائلة وكأنهـا عائلـةكـل فـرد
منهم، بل أكثرمما يعرفونه عن أجدادهم، إضافةإلى الجارالجديد
الذي يلاصق منزلهمنزلنا، إنهمعلم التاريخ بنظارتهالسميكة وأنفـه
المدبب، وصوتهالهادئخلال تعليقاتهالتاريخيةالمتقنة. ّ
في بداية الحفل وقف والدي ّ وقدم معلوماته الطازجة عن
ّجده الجديد، كما لو أنه أب رزق بمولـوده الأول بعـد حرمـان
ا لـه التهـاني مـع ملامـح ّ فصفق الحضور وقـدمو لعدة سنوات.
ً الإعجاب على الوجوه، والتـ اعتادتـه
ي صـارت جـزءاً تقليـديا
العائلة واعتاده الجيران.
والدي هو الوحيد الذي كان ّ يجدد في انفعالاته وتلاويـن
مظاهر الفرح على وجهه.
بـدأ حـديث الموجـودين ّ يتحـو بعد نصف سـاعة، ل عـن
الجد المكتشف إلى مـديح خـاص بالمـأكولات التـي ّ أعـدتها
والدتي. فهي ربة أسرة تـتقن واجباتهـا المنزليـة، وتعـرف كـل
الطرق التي تسعد بها زوجها وأبناءها.
ّ مدرس التاريخ – وغاب لـدقائق، استأذن الجار الجديد –
ً يحمل كتابا ، يميـل ً ثم عاد تهالكت أوراقه
ً باهتـا
واتخذت لونا
ّ وحـين اسـتقر ، ـب صـفحات ّ إلى الصفرة. فـي مقعـده
بـدأ يقل
الكتاب ويبحث في ثنايا أوراقه المتهر ، ثم انتظر فرصة هدوء ّئة
أصوات الآخرين ليبدأ القراءة، وقد كان يأمـل أن ّ يقـدم لجـاره
جدا
فوق الجد المكتشـف حـديثا.وربمـا يحالفـه الحـظ أكثـر ً Ú
فيكشف عن غصن جديد قد ّ يمتد إلى الحائط المجاور.
وصل الجار إلى الفصل الذي يبحث فيـه، ثـم طلـب مـن
الجميــع أن يســتمعوا إلــى معلومــات تفصــيلية عــن الجــد
المكتشف وبدأ يقرأ:
همام بن عبادة… كـذا…. ابـن…. ابـن…. كـذا…. ابـن
مالـك السـحجي، مولـده غيـر معـروف علـى وجـه التحديـد
وكذلك وفاته، ففيها روايات.
والأغلب أنه قتل حينما أغـار مـع عصـابة لـه علـى قافلـة
تجارية كانت تتجه من مدينة نينـوى إلـى جزيـرة دلمـون.وفـي
رواية أخرى أن شقيقه قد ّ دس لـه ّ السـم نتيجـة للصـراع علـى
الزعامة القبلية.
وفي رواية ثالثة أن أخت زوجتـه ضـربته بالسـيف وهـو
نائم ففصلت رأسه عن جسـده وذلـك بعـد ثلاثـة أيـام علـى
قيامه باغتصابها.
اتسمت حياته كل ، ومهاجمـة قوافـل ّهـا بالسـطو والسـرقة
ً، وتروي بعض السير أنه قتـل ً التجار، وكانت حيا
ً لاهية
ة ماجنة
أباه ليعاشر أرملته.
بدأت الكلمات تغيم، واهتزت شجرة العائلـة أمـام عينـي
ً
والدي، اضـطربت حـواف الـذاكرة، وتـداخلت الألـوان شـيئا
فشيئا… انسحب الأخضر فالأزرق ثم هبط الأسود مثـل شـبح ً
أخذ يلتهم الأسماء والحروف والألوان كل . ّها
ً، ّ ومر
ً بذاكرته المنتفخة أمجاداً واهية
سقط والدي مضرجا
شريط الذكريات اللامع عن تاريخ حياتـه القصـيرة أمـام عينيـه
وتمتم همس في خلايا روحه:
ً لم أنظر إلى امرأة سوى زوجتـي، ولـم
لـم أغتصـب حقـا
ً أشته ما ليس لي،
ً أمينا
ً بل كنـت ً وفيا
كنت صادقا ، لم أكن ريحا
ولم أشارك الشيطان طعاما.ً لم أسرق حلما،ً نسيما،ً
تحامل على نفسه، أحضر علبة الألـوان السـوداء وفرشـاة
الرسم، وبدأ يطلس شجرة العائلة وهو يتمـتم…. مـن نحـن؟!
ثم دخل في سواد مشفق.
ساد صمت متوقع، ومسح يوسف دمعـة أو دمعتـين، قبـل ّ
ّ وظل الصمت طاغيا، لا يقطعه ً أن يقرع أسعد الكأس بالكأس،
سوى صوت المذياع وقد تداخلت الأصوات المنبعثة منه.
صوت مذيع الأخبار، برنامج ديني، أغنية لأم كلثوم……
ويصفو الصـوت ليسـتقر لحظـات علـى ّ يزداد التشويش حينا،ً
صوت يتناوبه صوت آخر مباشرة.
– ثم ماذا؟ إلى أين وصلت الأمور مع حنين؟ سأل أسعد
وهو يملأ القدحين.
– انقطعت لقاءاتنا ثلاثة أسـابيع بعـد وفـاة والـدي… ثـم
ْ اتصلت بي، فاجأني اتصالها….
قالت بصوت هامس:
– اشتقنالك.
ً، اشتقت لك كثيراً، لكن ظروفي كانت صـعبة
– وأنا أيضا
في الأسابيع الأخيرة……
وأخبرتها بما حصل لي.
أصـر علـى ّ كثيـرا لأنهـا لا تعلـم، و ْت ً ْ فت ْ واعتـذرت ّ تأس
اللقاء الفوري.
– ِ وعملك؟
– لا ّ يهم، سوف أحصل على إجازة.
الفرص التـي يمنحهـا لـك القـدر سـريعة ومخادعـة، بـل
وقاتلة أحيانا، بعضها لا يمكن أن ّ تتمهل لتفكر فيها، فهي تلقي ً
عليك تحية سريعة وتغادرك قبل أن تنتبه لمرورها.
والمشكلة الكبرى يا صديقي حين تنتبه بعد أيام أو شـهور
أو سنوات…. حينها تبدأ حالة الندم.
ما ، يمارسـها وقـت فراغـه مـع ّ كأن حصل هو لعبة القـدر
الإنسان ليعبث بمشاعره، ويزعزع طمأنينته.
ِع الكأسين في فضاء من مطر، ونقـرات الـذاكرة َ
صوت ق ْر
على صفيح المشاعر المسفوحة، هو عالم يندر وجوده واقعيا
لكأنما ذلك يتم الآن داخل قبر من القبور، في العالم السـفلي،
كـأن أبطـال الأسـاطير السـورية قـد اجتمعـوا فـي هـذه الليلـة
وا نخبا والحب في العالم. ً ليستردّ من تاريخ أشعل الحياة
جلجـامش يقـرع كأسـه بكـأس أنكيـدو، ّ وكـأن آدون ّ كأن
النعمان يغني تراتيل قيامته، وعشتار تمسـح جراحـه فيتصـاعد
أنينها مع تراتيله الكنعانية.
ً ممزوجا …لقد أسعدني اتصـالها ً التقينا، باللهفة
وكان لقاء
كثيـــرا، وشـــعرت ّ أن ابتســـامة تلـــوح فـــي الأفـــق، كانـــت ً
مشرقة…ودودة…حنونة.
أتعرف!! عندما تجلـس معهـا وتحادثهـا تشـعر أنهـا فتـاة
مروية بماء الشجر ورحيق الأزهار. ّ
كلما ْ ابتسمت اندلعت نجـوم فـي السـماء، وإن ْ ضـحكت
تنهض القرى نحو حدود الجبال.
لكن…. ما فاجأني حقيقـة هـو أنهـا أظهـرت الكثيـر مـن
الشكوى والتذمر من ذلـك الحبيـب الـذي وقـف منـذ البدايـة
بيننا… حازم…
قالت لي:
ّ لم يعد يتصل بي كثيرا… مـا عـرف أننـي أتجـول فـي ً
وكل
السوق أو في المقهى ّ تحدث معي بعصبية كبيرة، يلاحقني فـي
ّ أدق التفاصيل اليومية… وحين طلبت منه منذ يـومين أن يـأتي
إلى دمشق ردّ بجفاء:
وماذا سأفعل هناك؟ خذي إجازة وتعالي ِ أنت.
ورغم هذه الشكوى إلا أنها أفاضت في التعبير عـن حبهـا
له، وأنها لا تتصور الحياة من دونه.
لا أعرف أية مشـاعر انتـابتني وأنـا أسـمع غزلهـا بحـازم،
ً ترفعني إلى أعلى ثم تنزل بي إلى قاع لا نهاية له.
وكأن موجة
ّ ّحد ْ قت بي وقد أدركـت أن الحـزن قـد ارتـداني، فغ ـرت
ي
نبرتها مازحة:
واالله، إلك وحشة…
مع توالي المواعيد واللقاءات، بدت حنين مسكونةبشخصـين
ًفـي حياتهـا…فـإذامـا
حازم ويوسف… لكأن حضوري صار لافتا
ً تسارع بالاتصال والاطمئنان.
غبتعن لقائها يوما
كنـت أجـر ، أن أتـرك لهـا حياتهـا، وأن ّب أن أبتعـد عنهـا
تتركني وتمضي… ّ لعل موجة أخرى تحملني نحو الخلاص.
لكنها كانت تتقن محاصرتي، تجذبني إليها ساعة تشـاء…
ُ وكنت أنا وقراراتي ننهار بسرعة… بمجرد سماع صوتها كنـت
أذهب إلى اللقاء مثل طفل ّمدوا له يدهم بقطعة من الحلوى.
ّهز أسعد رأسه وتمتم: مفهوم..مفهوم.
قبل حوالي الشهرين، وخلال إجازتي الأسبوعية، تواعدنا.
كان اليوم الجمعة، قرب ساحة عرنوس، كانت الكافتيريـا
شبه خالية من الزبائن، فـالمطر كـان غزيـراً وإذ تنظـر إليـه مـن
خلف الواجهة الزجاجية تشعر بدفء ونشوة.
بعد دقائق من لقائنا… قلت لها:
أحبك.
قالت بما يشبه الحزن:
في الأسبوع القادم خطبتي… أنا وحازم.
، انكســرت… ّ تشــظ ُ تماســكت، تمال ُ كــت، ُ تنــاثرت، ُ يت
وابتلعتني ّهو . ة من فراغ أفقدتني القدرة على إمكانية ّ التنفس
ّ ُ يـت
ّ ُعت ابتسامة ُ وباركت لها…وبعبارات تقليديـة تمن
تصن
لها السعادة.
كان المساء المتآمر مع الحالة الانفعالية لي قـد بـدأ يطبـق
بأنفاسه المتوترة على كياني…صارت الشـوارع ضـيقة، كأنهـا
أفاعي ّ تلتف حول جسدي وتضغط على أنفاسي، صرت أراهـا
تـنهض وتهـاجمني، وأنـا أحـاول أن أقتحمهـا… أن أطعمهـا
روحي وجسدي.
حب ، يلفــح الوجــه ّــات المطــر ّ تحولــت إلــى غبــار ســام
والعينين، يعصف بالرئتين …. ّ كأن المدى سكين حادÛ يمارس
ساديته في عنقي وفي ضلوعي.
مـر يسـبق ً ُ سرت وحيدا، من أعماق أعماقي ً
خاليا ، خـواء
خطاي عدة أمتار، ثم يقـف ليسـتقبل شـبحي، يصـفعني وكأنـه
ي نوبة . ّ يذكرني بخيبتي ثم ينفلت ف ضحك مجنون
كانت قدماي تبحثان عن موطئ لها على مـدرج الشـارع،
فقد صارت الحجارة المرصوفة تهوي إلـى أسـفل، وأوشـكت
علـى السـقوط فـي ٍ مسـار لا حـدود لـه، أوشـكت أن ّ أتلمـس
مفاصلي وقد بدأت تتحول إلى كتلـة هلاميـة تضـيع ملامحهـا
ّ وتتبدد في هواء يضيق ويتلاشى……
اجتزت شارع الثورة، وصـلت بـاب الجابيـة… الشـوارع
غارقة في عزلة قد تظنها أبدية لا حياة فيها.
المقهى القديم أيضا وعزلته، هو صديقي ً غارق في وحدته
الدائم الذي ّظل يرافق لحظات الكآبة والخيبات الكبرى.
كنت آتيـه مهزومـا اءات الشـتاء ً كـل يـوم جمعـة فـي مسـ
ّ المستبدة بوحشتها وأنانيتها.
دخلت المقهى… لا شيء مختلف، هكذا هو، كما لو أنـه
قد أ Ýعد منذ عشرات السـنين لمثـل هـذه اللحظـة… فهنـا فقـط ُ
يمكنني أن أنزف ما يليق بحزني وكآبتي.
ً بتزيين
منذ كنت صغيراً في المرحلة الابتدائية، كنت مهتما
صفحات دفاتري المدرسية، إذ كنت أرسـم الأزهـار والنجـوم
ً بين السطور وفي نهاية كـل درس أكتبـه، كنـت أرسـم
وأحيانـا
الدوائر المتداخلة وأنوع فـي تلوينهـا… وكنـت أكتـب اسـمي
داخل هامش كل صفحة.
َسخ،
كنت أحاول تنويع الخطوط مما نتعلمه… الرقعة، الن
الكوفي… لم ُ تخل صفحة مـن صـفحات دفـاتري مـن اسـمي
ني كنت ّ أخط داخل الهامش… وحينها لم أكن أعلم أن ملامـح
مستقبلي علـى الهـامش… لقـد نشـأت هكـذا علـى الهـامش،
وكبرت على الهامش، ومازلت أعـيش علـى الهـامش… لكـن
ليس هامش الصفحات المدرسية، بل، هامش الحياة.
ً لكـي
ً وتـرك لكاسـات العـرق مجـالا
عاد الصمت مخيما
َ حكايتـه كفـارس
تظهر أثرها في عالم يوسف وهو يمتطي َظهر
أصابته الطعنات في أنحاء جسده وبدأ يرتجف.
قال أسعد:
وداوني بالتي كانت هي الداء ثم ملأ القدحين وفـتح بـاب
الغرفة حيث السواد ّ المتمسك بشاهدات القبور المتهاوية.
عبق مختلف من مطر وهواء وتراتيل قديمة اقتحم أجـواء
الغرفة وأنعش ليل الصديقين.
أضاف أسعد:
ّأ أحشائك، تقي
ّأ، تقي
حين تفشل في الحب، عليك أن تتقي
ً أخـرى جديـدة كـيلا تخسـر جسـدك
روحك واستبدلها روحا
وروحك إلى الأبد.
ضــحك يوســف، ولأول مــرة فــي هــذه الليلــة يضــحك
ويغوص عميقا . ً في عالم من الضحك
وضــحك أســعد…لكأنمــا مــن قــال هــذا الكــلام لــيس
أسعد…بل إحدى شخصيات القبـور المظلمـة وقـد اكتشـفت
ذلك بعد الموت…وهذا ما بـدا مـن إشـارة أسـعد عبـر البـاب
المفتوح إلى القبور الغارقة في عتمتها.
ً، ربمـا بعـد فـتح بـاب الغرفـة،
صفا صوت المذياع قلـيلا
ً مـا فـي داخـل يوسـف
ّكت شيئا
وصوت مقطوعة موسيقية حر
فنهض يرقص، ومن دون تردد وقف أسعد وقـد حمـل كأسـي
العرق وناول إحداهما ليوسف.
ودارت…دارت الغرفــة بهمــا.. كأنمــا لحظــة التقيــؤ قــد
ً وعنيفا
حانت عند يوسف، فقد رقص طويلا
وضــع الكــأس علــى رأســه ّ وظــل يــرقص، والغريــب أن
الموسيقا ظلت متواطئة معه، فقد بقيت الموجـات صـافية لفتـرة
أطول من المتوقع…هكذا هي غرائبية المواقف، وعجائبيةالقدر.
شعر يوسـف أن الكـأس سـتقع، ّ مـد يـده ليتلقاهـا لكنهـا
اصطدمت باليد الممدودة وتابعت مسيرها نحو الأرض…
بقي قليل من السـائل الأبـيض فـي يـده، فقربهـا مـن فمـه
ورشف قطراته وهو يقول:
تقيئي أيتها الكأس…أفرغي ما بداخلك كـي تمتلئـي مـرة
ّا تقيئي. ّ أخرى…
هيا….هي
لحظات من حزن مو ّشى بفرح مفـاجئ، رغبـة فـي البكـاء
والضحك معا، لحظات من وجد وشغف… ً
خليط غير متجانس من المشاعر والأحاسيس….. أنفاس
ترتفع وتهبط….. وغوص في زمن ولحظات
ْ مضت…. بعضـها يضـحك وبعضـها يبكـي هـي متصـلة
سريعة تترك للمشاعر أن تنهمر اعتباطا، لذلك فهي ّ تمر ّ وتتبدل ً
من حالة لأخرى كما رمشة العين.
ً اختراقـه
قال يوسف وهو ّ يحدق في سقف الغرفة محاولا
بنظراته نحو فضاء غامض:
ولكن كيف تقضي ليالي الشتاء هنا وحيدا؟! ً
ّ ّ تمهل أسعد في الإجابة…… ما أراد أن يسـأل نفسـه
كأنــ
ّ كأنـ ، ر في ّ السؤال ذاته….. ما صفعه سؤال يوسف
وجعله يفكـ
ول مر . ّ الأمر لأ ة
– ذات ّمرة قالتلي أمإلياس،ربما قبل وفاتها بأشهرقليلة:
هذا المجتمع يمكنك أن تطلق عليه بكل اطمئنان، مجتمع
التناقضات، لا يمكنـك أن ترفضـه… ولا يمكنـك أن تقبلـه…
هذا المجتمع مرهون بعقلية تعتقد أنها دائمـا علـى صـواب… ً
عقلية تبريري … كل إنسان يخالف القانون إذا كان ذلـك ّة صعبة
فــي مصــلحته…. ويؤكــد علــى القــانون حــين يفقــد هــذه
إذا أراد شخص مـا أن ّ يسـو المصلحة…. غ السـرقة فهـو يقنـع
ً آخـر مهمـا
نفسه بذلك في الوقت ذاته الذي يـدين فيـه سـارقا
تشابهت ظروف هذه السرقة…..
تابع أسعد كلامه، بينما رحل يوسـف فـي فضـاء آخـر….
ً انجلت الآن ذكريات لا أفق لها أمـام عينيـه…..
ً فشـيئا
وشـيئا
ساد صمت من هدوء مؤقت.
في ليلة واحدة قد تفيض مشاعر سنوات عديدة، تختزلهـا
ً مـن فـيض الوجـدان…مـن
متناقضة متداخلة، وقد تعيش شيئا
دون أن تعرف… كيف؟ ولماذا؟
أن تدخل نفسك في هكذا تجربـة فأنـت تعـوم فـوق بحـر
متقلب الأمواج، لا تعـرف مـاذا تفعـل بـك كـل موجـة… قـد
تدفعك بمرح إلى الأعلى، وقد تلطم وجهـك بمائهـا المـالح،
وقد تشعر أنك ّ تتبخر مع مائها لتذوب في غيوم الحنين.
انكسار الروح يشبه صهر الحديد فـي أتـون نـار صـاخبة،
يذوب الحديد ويتلـوى كتلـة لزجـة لـيس لهـا قـوام ثابـت….
انكسار الروح نوع من الهزائم التي لا يمكـن أن تعيـد تجربتهـا
لكي تضمن حسابات الربح فيها
…. هي خسارة واحدة وللأبد….
كل شيء قابل للرهان، قابل للمحاولة، قابل لإعادة إنتـاج
نفسه من جديد…. لكن حين تخسر روحك
تكتشف أنك خسـرت إيقـاع الحيـاة الخـاص بـك، ذلـك
الإيقاع الذي يعتبر رمزك الخاص…. شـيفرتك الخاصـة التـي
بدونها تتهاوى أحلامك دفعة واحدة.
ًكأسـه،
خـرج يوسـف مـن بـاب الغرفـة المفتـوح حـاملا
ً استقبله هواء ّخدر وجهه، ومطـر داعـب روحـه، مثلمـا
تمامـا
داعبت يد حنين لواعج قلبه.
قال بصوت مرتفع:
، وأعجـب لامـرأة ّ الحب أعجب Ü لخد يلطم يدا له ب ً امتدت
ْف ق الـروح ثـم فـي تقدم لك في لحظة ما يفوق السعادة فـي َخ ـ
لحظة أخـرى تسـتردّ منـك عمـق عاطفتـك بقسـوة لا تتوقعهـا
فتُ ْهلك روحك ّ وتستبد بمشاعرك.
لو كان يوسف يعلم أنه يقف لصق قبر (أم إلياس) لخفض
ً قبـل أن
صوته، بل، لهمس في داخـل وجدانـه…لبكـى شـغفا
ّ
ح ويستند إلى شاهدة القبر وقد أضاءها برق ّ قوي. يترن
* * *
ترن ، ولاح في سواد عينيه ّحت الكلمات على شفتي أسعد
ً بان في قسمات جبينه
جوا مختلفا
حزن مختلف، وصاغ وجهه Ú
وصوته المته ّدج:
ً
ّ محم لم أكن قـد ولـدت بعـد، حـين جـاء عـام ١٩٤٨ ـلا
بدءا كبة فلسطين وارتداداتها على مـدننا ً بالمآسي والنكبات، بن
وقرانا وتفاصيل الحياة اليومية في البيوت والمزارع والشوارع.
لم يكن قد مضى على زواج عبـود فـي بدايـة ربيـع ذلـك
العـام سـوى شـهرين حـين بـدأ كثيـر مـن الشـباب السـوريين ٌ
بالالتحاق بالمقاتلين المتجهين إلى فلسطين.
تــرك عبــود زوجتــه وقريتــه وانطلــق عبــر خــيط الــدم
الواحد…تلك العبارة سمعتها منـه بعـد حـوالي خمسـة عشـر
عاما. قال في إحدى الجلسات التي نادراً ما كان يروي تفاصيل ً
المعارك في فلسطين خلالها:
خيط الدم واحد ّ يمتد عبـر عـروق الأرض ّ ويتشـعب مثلمـا
يتشعب في الأسرة الواحدةمن الوالدين وحتى أحفاد الأحفاد.
المئات من الشباب من قرى ومدن سوريا، تركوا أرزاقهم
وعائلاتهم وأراضيهم، تركوا نساءهم وربما أطفـالهم الصـغار،
آباءهم وأمهاتهم، وكانت وجهتهم فلسطين.
ً عدواً واحداً
قاتلوا يدا ، من كل الأطياف والطوائف ً واحدة
والأديان… من كل القرى والمدن، من الساحل والداخل…
لكنهم بعد عدة أشهر عادوا، وعـاد عبـود، عـاد قسـم مـن
َ َص َب ٌ قسم الشباب إلى بيوتهم، آخر مراسم
بينما ن
البطولة فوق قبورهم على أرض فلسطين.
ّ وبعـد ذلـك، بـدأت التفاصـيل تـروى، و
الحكايـا تسـتجر
الحسرة والألم لما ضاع وذهب، لحلم لم نعرف كيف نصونه،
ولأرض كسرنا رئتيها فاختنقت رويدا رويداً. ً
تلك النكبة لم تكن هي النقطة الفاصلة في مسـار الـوطن،
بـل كانـت نتيجـة أولـى لتلـك الفاصـلة التـي رتبهـا سـايكس
بيكو…. وعلى أساسها بدأت النكبات وانهمـرت الهـزائم بمـا
شملت من مناحي الحياة المختلفة.
ّ إلياس بصـحبته،
حين عاد عبود، لم يكن وحيداً، كانت أم
ّ فتاة في العشرينات من عمرها، حـان
عـادت وعبـود وهمـا يترن
من وقع المأساة مثل كثيرين غيرهما….
ّ الياس الفتاة الفلسطينية التي أطلقت النـار علـى ضـابط
أم
انكليزي وقتلته، فطاردها الانكليز واليهـود لكنهـا هربـت إلـى
شمال فلسطين، وهنـاك التقـت بالمقـاتلين مـن فـوج الضـابط
(غسان جديد) وتعرفت إلى (عبود) الذي اصـطحبها معـه فـي
أثناء عودته.
ّ الياس) متزوجة، د لقـب
ّ لم تكن (أم
بل كان الاسـم مجـر
أطلقته على نفسها لحظة هروبها من الانكليز واليهود.
ّـة،
وكمـا قيـل وروي فيمـا بعـد….كانـت مـن أسـرة ثري
فملامح وجهها ّ تدل على نعمة متأصلة، عدا عن كونهـا كانـت
تلـبس فـي يـديها أسـاور ذهبيـة إضـافة إلـى مبلـغ جيـد مـن
الجنيهات الفلسطينية.
في ّحي – والذي ُ تعرفـت إليـه باب توما الدمشقي الراقي
أقامـا شـهراً بعد سنوات عديدة خـلال دراسـتي فـي دمشـق –
ً لإصـابته فـي ً
ً مناسبا
واحدا، حاول خلاله عبود أن َ يجد علاجا
عينه المطفأة من دون جدوى وعاد إلى هنا…
ّ أم إلياس بدورها رفضت أن تقيم في دمشـق… ت
وأصـر
ً ورفيق كفاح
على مرافقة عبود أخا … ً وصديقا
في هذا العامالذي سقطت فيه فلسطين، ُولدت أنـا، شـاهداً
على نكبة يشبه شاهدة القبر وقد نقش عليها تاريخ الوفاة.
سـقوط ّ المـدو انظر ال ي ّ إلي وقد نُقش على جبينـي تـاريخ
لفلســطين بســقوط الزعامــات التقليديــة العشــائرية القبليــة
وخياناتها غير المسبوقة في التاريخ.
حين عاد (عبود) المثقل بهزيمة مريـرة، والغاضـب حتـى
حدود السماء من أثار الهزيمـة المدوي ، كـان عليـه أن يواجـه ّـة
ً عن
مصيبة خاصة، مصيبة على المستوى الشخصي لا تقل ألما
الهزيمة في فلسطين.
ّــزة فــي قتالــه ضــمن
عبــود الــذي خــاض تجربــة ممي
ً لا يمكـن تسـميته
ً مختلفـا
فوج(غسان جديـد). اكتسـب شـيئا
بالوعي الجديـد بقـدر مـا يمكـن أن أطلـق عليـه بـوادر أسـئلة
ً إلى إرادة أقوى وعزيمة ستنعكس
جديدة، وتفتّح عقلي، مضافا
على سلوكه.
لقد توفيت زوجته في أثناء غيابه في فلسطين.
وفاتها كانـت أول ثمـن يدفعـه عبـود، وأول مؤشـر علـى
انعكـاس تلـك المـؤامرة علـى النسـيج الاجتمـاعي لـيس فـي
فلسطين وحدها بل في محيطها الطبيعي، فكأنما هي جمرة نار
ّ تفجر ما تراكم في المجتمع من أوساخ وأحقاد، وتظهرهـا كـي
تساهم في تعميق الهزائم.
وحينما عاد سـمع أقاويـل عديـدة، أقاويـل اختلفـت فـي
التفاصيل لكنها اتفقت على ّ أن (فاضل عقل) هو من قتلها.
تسر ، حتى بات ّبت الأقوال وتنامى الحديث في الموضوع
حقيقة لا يساورها الشك…
ّظن الجميع أن وفاة زوجة عبـود قـد مـر ، وأن ّت وانتهـت
عبود لن يفعل شيئا، خاصة أن فاضل عقل إنسان فاجر مجـرم، ً
ّبه.يسـتخدم
لا يتوانى عن فعل أي شيء تجاه من يواجهه أو يؤن
ً يديه سريعا في الردّ، يحتفظ بـه ً
وإن اضطر فهو يستخدم سكينا
على خاصرته.
لقد شاهده كثير من أهل القرية يتقر ، ّب إلـى زوجـة عبـود
وشاهدوه يتحرش بها، ومع أنها كانت ّ تصـده بقـوة وعنـف إلا
. ّ أن جرأته عليها كانت تزداد مع الأيام
ّ أك في صبيحة يوم وفاتها، دت بعض النسوة اللـواتي قمـن
ّ وأك بتغسيلها على وجود علامات عنف على جسدها، د بعـض
الرجال أنهم شاهدوا خدوشا . ً على وجه فاضل عقل
طوال شهر مر ، لـم يظهـر عليـه انفعـال Ý على عـودة عبـود
واضح سوى ّشدة الحزن، فقد كان يستمع إلى مـا يتهـامس بـه
الناس من دون أن ينطق بكلمة.
وفي ليلة تشبه هذه الليلة الماطرة، سمع سكان القرية عند
منتصف الليل صوت طلق ناري واحد.
ً، لا تثير
أصوات الطلقات النارية في القريةكانت مألوفة ليلا
فضول أحد، ومعظمها صادر عن بنادق صـيد، تلاحـق الثعالـب
ً عـن
وبنات آوى التي تتسلل إلـى بيـوت القريـة فـي الليـل بحثـا
دجاجة ساء حظها وساقتها الأقدار وليمة لثعلب أو ابن آوى.
لكن الطلق الناري في تلك الليلةكان مختلفا، لم يكن صوت ً
بارودة صيد ولم يكن ّ يدل على بعد المسافة عن الهدف.
طلق فيه ثقة وانتقام.
هكذا ّ تحدث الناس في صباح اليوم التالي حـين شـاهدوا
ً مـن
ّة فاضل عقل وقد تدحرجت مع ميلان الشـارع هبوطـا
جث
جهة بيت عبود واصـطدمت بعمـود الكهربـاء، وكانـت بعـض
الكلاب الشاردة قد بدأت بنهشها.
من دون تردّد، أيقن الجميع ّ أن عبـود قـد فعلهـا… هكـذا
ً وجهـاراً، بينمـا كـان تعليـق
سر ْت الأحاديث بين الناس همسا
عبود جملة واحدة فقط:
كلب وفطس.
* * *
بغرفه الكثيرة الواسـعة وفنائـه الـداخلي ّ المـوز بيت عبود، ع
بين أرضية اسمنتية صلبة، وبين أحواض ترابية تناثرت فيها بعض
ّ إليـاس، عـدا غرفـة الشجيرات والنباتات.قد أصبح الآن بيـت أ
م
واحدةمطل الشارع، إذ ّحولها عبودإلى دكانه المشهورة في ّة على
تغلق أبدا.ولكونها صارت بيت عبود ومأواه. ً القرية.لكونها لا
ّقدم عبود بيته إلى أم إلياس والتي صارت تعرف في القرية
بشقيقته، وقد أدرك الجميع عمق العلاقة بين الاثنين.
والغريــب فــي الأمــر ّ أن أحــداً لــم يشــك بنبــل العلاقــة
وطهارتهــا، وهــو أمــر مســتغرب عــادة فــي عقلنــا ّ المســتبد
والمتو َ ارث منذ عدنان وغسان وقحطان.
فيما بعـد سيصـبح بيـت عبـود مـا يشـبه المركـز الثقـافي
والمدرسة وحديقة الألعـاب، فـي ذلـك الوقـت اسـتطاعت أم
ً إ فـي القريـة
إذ ّ تحو لياس أن تفرض سـلوكا ، لـت هـي ً مختلفـا
وبيتها إلى مرجعية ونمط علاقات لم تعرفه الزهرة من قبل.
وربما كان لسمعة عبود، ومكانته الوطنية، وتضـحياته فـي
ً غير محدود لما قدمته أم الياس في القرية الغافية
فلسطين دعما
على تنهدات تخلفها وأحلامها المتضخمة.
ً
وفي السـنوات اللاحقـة سـتبدو صـورة (عبـود) نموذجـا
للبطولة ليس في مخيلتـي فقـط، بـل وفـي أذهـان كثيـرين مـن
الشباب في القرية.
وما ساهم في ذلك هو تلك الأخبار والقصص التي كانت
ّ ترويها أم إلياس عنه.
الميل للصمت وقلـة
إذ ّ إن عبود كان دائم َ
لقد ابتلع الهزائم من دون أن ّ يتأو … بينما أفاضت الكلام. ه
أم إلياس في رواية الأحاديـث عـن بطـولات المتطـوعين
ومنهم عبود بالطبع في المعارك التي خاضوها.
لا أنكرأنني كنت أميل جداً لسماع هذه القصص، حتـى لـو
تكررت مرات عدة أمام أنـاس مختلفـين فـي كـل مـر . وكانـت ّة
شخصية هذا الرجل تتعاظم في مخيلتي كلما وصل الحديث إلى
نقطة (الثأر)من فاضل عقل. ولربماكانـت طريقـة أمإليـاس فـي
تماما. وأذكر ً الحديث شائعة إلى درجة أنني كنت أعيش الحدث
حينها أنني كنت أحرك أصابع يدي كمـن يطلـق النـار أو يسـتعد
للهجوم على العدو الصهيوني في أثناءماكانت ترويه أمإلياس.
وأكاد أجزم أن كل الروايات عن حرب فلسـطين سـمعتها
ً عـن
من أم إلياس لأن عبود ّ ظـل وحتـى هـذه اللحظـة ممتنعـا
رواية أي حدث.
) ّغس ان جديـد تحت قيادة ّ المقدم في الجـيش السـوري ( ـ
شارك عبود في المعارك، حيث خاضـت هـذه الكتيبـة معـارك
شرسة مع اليهود في مرتفعـات (العموقـة) التـي تشـرف علـى
سهل الحولة، وبعدها في معارك (تلة ماروس) الاستراتيجية.
كانت معركة ماروس بالغة الأهميـة، إلـى درجـة أن قائـد
جيش الإنقاذ (فـوزي القـاوقجي) اجتمـع مـع حسـني الـزعيم
رئيس الجمهورية السورية بحضور رئيس الوزراء جميل مـردم
بــك ورئــيس حكومــة لبنــان ريــاض الصــلح. حيــث طلــب
القاوقجي تسليمه مدافع هـاون وذخيـرة بعـد أن شـرح أهميـة
منطقة (ماروس) في الحرب ضد العصابات اليهودية.
لكن الصدمة كانت عنيفـة علـى القائـد القـاوقجي حينمـا
ُرفـض طلبـه، وأشـار الجميـع عليـه بالانسـحاب مـن منطقـة
ماروس حينما أوشكت الذخيرة على النفاد.
حينها قرر (غسـان جديـد) أن يقـتحم أحـد المعسـكرات
البريطانية في (حيفا).
قالت أم الياس وهي تروي أحداث حرب فلسطين:
كانت خطة غسان جديد من حيث المبـدأ تشـبه إلـى ّحـد
كبيــر مــا فعلــه (هنيبعــل) عنــدما أراد أن يجتــاح أراضــي
الإمبراطورية الرومانية.إذ فاجئ العدو من حيث لا يتوقع….
توق هنيبعل بجيشه عبر الساحل الممتـد ّ فقد ع الرومان قدوم
ً
بين إسبانيا مرورا إلى الأراضي الرومانية. ً بفرنسا وصولا
غير أن هنيبعل فضل مفاجأة الرومان من خلال عبوره جبال
الألب بكل ما يحمله ذلك من مخاطر عديدة.وإذ نجح في ذلـك
كان على الرومان أن يواجهوا جيشه في وسط أراضيهم.
ً بثياب الجيش ّ تنكر
(غسان جديد) مع مئة وعشرين مقاتلا
الأردنــي، واخترقــوا طريــق جنــين إلــى حيفــا، متجــاوزين
المعسـكرات الانكليزيـة واليهوديـة التـي تقـوم علـى جـانبي
الطريق، وساروا إلى قلب حيفا حيث نجحت المهمـة وسـقط
المعسكر في أيدي المقاتلين بما فيه من أسلحة وذخائر.
فقد عبود عينه إثر ، ّشظ في ذلك الهجوم، ية أصابت وجهه
وكان عليه أن يعود من فلسطين بعد أن سقطت بيد اليهود.
ّـه انتقـل
ً وكأن
صمت أسعد لمدة غير قصيرة… كان جالسا
إلى عالم أخر… تاهت عيناه في البعيد… أغمض عينيه نصـف
ولوى شـفته السـفلى تحـت أسـنانه وحـر جفنـه ّ إغماضة… ك
…ً
الأيمن قليلا
لم يـردّ أسـعد علـى السـؤال…بـل تـابع حديثـه…وكأنـههل شعرت بالنعاس وتريد النوم؟
ّ يحدث نفسه، أو كأنه يستخرج من عوالمه الداخلية ما يحـاول
أن يطفئ لهيب الأسى والألم:
ً في استمرار
لا أعرف بالضبط إن كانت نكبة فلسطين سببا
هذه العقلية المتخلفة عن ركب التاريخ والحضارة؟ أم أن هذه
العقليـة هـي التـي أطاحـت بفلسـطين؟ وإن كنـت أميـل إلـى
الاحتمال الثاني أكثر.
أسئلة كثيرة ّ تلح على ذهني وتفكيري:
هـل االله غاضـب علـى العـرب؟ أم نحـن مـن ّ نحمـل االله
تصوراتنا ورغباتنا وتوحشنا؟ثم نلقي مـن ظلالـه علـى تخلفنـا
ستارة من إيمان؟
حين أنهى أسعد جملته…استردّ المكان واللحظـة…انتبـه
ً ثم تابع حديثه:
لوجود يوسف، فنظر إليه، ّحدق فيه قليلا
مر : فلسـطين ومولـدي، ّت خمـس سـنوات علـى النكبتـين
توفي والدي حينها، ولم ِ يمض أكثرمن سـتة أشـهر علـى وفاتـه،
ً
حتى أ ، ٌعلن زواج أمي من عمي الذي لم أكن أعرف وجهه سابقا
ولا أذكر شيئا ، لقد كـان يسـكن فـي ضـيعة أخـرى، ً من ملامحه
ليست بعيدةكثيرا، ومع ذلك فأنا لا أتذكرأنني قد سبق ورأيته. ً
وجاء عمي ليسكن في بيتنا، ليحتل مناخ البيت بتفاصـيله،
وليؤسس لمأساة أخرى في حياتنا.
فيما بعد علمت ّ أن أمـي كانـت مجبـرة علـى الـزواج مـن
عمي، تحت ضغط أهلها وأهله.
توقف أسعد عن الكلام، نظر في الكـأس…حركهـا كمـن
ً… ّ هـز يحرك ما ركد من ذكريات في جحيم عقله، كانت فارغ
ً فباغت
ً. برأسه قليلا
ته الذكريات عنيفة
ّ نهض ليملأ الكـأس… ّ مـد يـده لم كـه
ؤشـر المـذياع وحر
فتداخلت الأصوات حتى استقر . ّ على صوت ٍصاف عذب
تركت يداه مؤشر المذياع بـبطء كأنـه يخـاف أن ينسـحب
هذا الصفاء إلى ما وراء اللغط الصوتي…..
ّر حالك…..
مالك يا حلوة مالك… Ýهو الدلال غي
ّ اهتــزت الغرفــة ّ واهتــز رأســه، دارت الجــدران، دارت
تمايـل منتشـيا… ّ مـد يـده وسـحب كـأس يوسـف ً الذكريات ف
وأفــرغ محتواهــا داخــل فمــه دفعــة واحــدة…ارتفــع صــوته
بالغناء… ّمد يده ليوسف كي يشاركه الرقص.
رغم برودة الطقس، فاضت الغرفة حرارة… تصاعد بخار
العرق ّ وتحول إلى غيمة : ّغطت تفاصيل الغرفة
– ّلابد أنها ستمطر بعد قليل…
ً
ّها ستمطر عرقا
– لكن
ّـل
ً… تخي
ّـل لـو أن السـماء تمطـر مـع المـاء عرقـا
– تخي
سينزل العرق مكسورا . ً جاهزاً
– ما عليك سوى أن تفتح فمك وتسكر…
ضحكا وهما يتخيلان الصورة..
الناس تسير في الشوارع ترفع رؤوسها وتفتح أفواهها…
ثــم يبــدؤون الــرقص…. هــل ســيبقى حينــذاك كراهيــة
وحروب؟! هـل سـتبقى طائفيـة ومـذاهب؟! حتـى الأحـزاب
ً وسـيبني المهندسـون السـدود
ستزول…ستفيض الأنهار عرقا
لتجميع العرق ّ وسيحل السلام.
– وإلى من سيؤول ِخراج القرى حين ذاك؟؟
– لا أعرف…لكن…ربما إلى أبي نواس.
استمرت الوصلة الغنائية… يا مال الشام ويلا يا مالي…..
واستمر الرقص الزورباوي….
الموسيقا والرقص لا يقودان روحك إلا نحو الخلاص…
يصوغان المحبة في قلبـك والـدفء فـي عينيـك… ويرسـمان
الأمل لخطواتك، هكذا أنهى يوسف رقصه المستباح على ّحد
ذكرياته مع حنين.
فتح أسعد باب الغرفة فانتفض من برودة الطقـس، وبـبطء
َ اندفع للخارج، حاول أن ّ يحدق في أفق من عتمة طاغية،
لم ير
شيئا… وقـف لحظـات يستنشـق الهـواء البـارد، ثـم عـاد إلـى ً
الداخل وأغلق باب الغرفة.
* * *
يوسف على الكلام:
استحث
وماذا بعد؟!
– بعد حوالي سنة ونصف من عذاب لم أكن أفهم أسبابه،
ُ على وجه أمي…
بل كنت أرى مظاهره
بكاؤها ونحيبها… تعاستها وألمها… أرقها وسهرها، كـل
ذلك كان واضحا . ً أمامي
ولــم يكــن مــن نتيجــة لــذلك ســوى أن أمــي توفيــت،
ولأكتشف لاحقا قد سلب منهـا البيـت والأرض بعـد ً أن ّعمي
أن أجبرها على التنازل عنهما.
غادر عمي القرية، وبقيت وحيداً، أذكر أنه بعد مراسم دفن
ِيمتـه
أمي، أودَ َعنـي لـدى الجيـران وذهـب…غـادر القريـة بغن
وفي اليوم التالي أصر إليـاس علـى أن تأخـذني ّ الوضيعة. ت أم
إلى بيتها لأعيش معها.
ًكـي ّ تحـول بيتهـا إلـى مـا يشـبه المدرسـة،
كان ذلك فاتحة
تستقبل الأطفال كل يوم من الصباح وحتى ما قبل الغروب، ومـا
ساعد على ذلك أن قريتنا لم يكن فيها مدرسة، بل كانـت أقـرب
ً على الأقدام.
مدرسة إلينا تبعد حوالي ثلاثةكيلومترات مشيا
الحياة في بيت أم إلياس كانت لها طبيعـة مختلفـة، تـدرك
ذلك رغم صغر سنك، كل شيء فيها مختلف مع أني لـم أكـن
أدرك جوهر وأسباب الاختلاف في تفاصيل الحياة اليومية.
ً بي فقط، بل ظهر وبدا على وجـوه
هذا الأمر لم يكن متعلقا
ّ وسلوك الأطفال جميعهم…. إذ لأو ةكنا نسمع كلمات مثل
ل مر
امتترددفي كل لحظة تقريبا.ً النظام والترتيب والاحتر
ّ لكل طفل صحن وملعقة… منشفة صغيرة خاصة به…
غسل اليدين قبل الطعام وبعده لم يكـن شـعاراً وحسـب،
بل كنا ملزمين بذلك… الحديث بصوت منخفض واحترام ّكل
طفل للآخرين كان مما يشغل بال أم إلياس فـي كـل نصـائحها
وتوجيهاتها لنا.
كان على يوسف أن يقاطعه، ويسأل عدة أسـئلة، أو يبـدي
أو يعل …لكنه اكتفى بأن ّ ملاحظاته، ق بعض تعليقات الإعجاب
رفع حاجبيه للدلالة على كل ما سبق.
وق مـا أتـاح للهـواء ّ يبدو أن المطر قد ت ف عن الهطل قليلا
أن يمارس عادته القديمة فـي مغازلـة أغصـان الشـجر، وتلـك
البيوت بأسقفها الوطيئة….. ولهب النار قي المدافئ… ولهب
الذكريات في الصدور….
مثل كل أهالي القرية، بل والقرى الكثيرة في هذا الوطن.
كان الغذاء اليومي يعتمـد علـى مـا يـزرع فـي الأحـواض
الترابية المتناثرة في فناء البيت.وكانت سياسـة أم إليـاس تقـوم
على إشراك مجموعة من الأطفال كل يوم في إعداد الطعام وما
يلي ذلك من تنظيف وترتيب لمفردات واقعة الطعام.
في الأسبوع الأول من كل شهر كانت أم الياس تنـزل إلـى
ً من الذهب
طرطوس، وقد علمت فيما بعد أنها كانت تبيع شيئا
أو الجنيهات التي أحضرتها معها من فلسطين…
وكانت تشتري لوازم متعددة للبيـت… ّ ولعـل مـن أهمهـا
على الإطلاق هو هذا المذياع الذي تراه أمامك.
ً
لأول مر ، لسـنا نحـن الصـغار مـن ّة تعرف القريـة مـذياعا
جلسوا مندهشين وهم يستمعون إلى الأغاني والتمثيليات وإلى
نشرات الأخبار والقرآن الكريم…
انشغل الكبار بهذا الجهاز العجيب… فطغى علـى البيـت
. ٌ ترتيب حياتي مختلف
ما زلت أذكر عصر يوم الجمعة من كل أسبوع حين يجتمـع
الرجال والشباب وبعض النسوة يستمعون إلـى برنـامج (محمـد
حسـنين هيكـل) السياسـي، ومـا يعقبـهمـن بعـض الحـوارات
والنقاشـات التـي كانـت تتسـم بـالعواطف والانفعـالات. ّ وكـأن
الخـلاصمـن الصـهاينة وتحريـرفلسـطين بـات مسـألة أيـامأو
أسابيع، وربما إن طالت فهي عدة أشهر.
ربما كان يوم الجمعة هو اليوم الوحيـد الـذي يـدخل فيـه
عبود إلى بيته…بيت أم إلياس.
كان يجلس مع الآخرين، ويستمع إلى برنامج هيكل، لكنه
َ، لم يكن يتكلم كثيراً
ولم يكن يبدي آراءه ّإلا كان الأكثر صمتا
ما ندر وبجمل مقتضبة.
صباحات فيروز هي الأكثر استبداداً بالذاكرة، مازال صوتها
ّـات النـدى
ينساب مثل ماء النباتـات البري . ومـا ّـة المغسـولة بحب
َ تلك التي تـداخلت فيهـا
زالت أغانيها تعصف بكياني، خصوصا
همسات أمإلياس وهي تردّدكلمات الأغنيةمع صوت فيروز.
ًكــان المــذياع يطفــأ، بعــد ُ
فــي الســابعة والنصــف مســاء
الاستماع إلى نشرة الأخبار….
بلـغ عـدد الأطفـال المقيمـين فـي البيـت أربعـة أطفـال،
أعمارنا متقاربة وبالتالي اهتماماتنا وألعابنا وشيطناتنا…..
في كل ليلة،كانت أمإلياس توجهملاحظاتها للجميع، تمدح
بعض تصرفاتنا وتنتقد بعضها الآخر بمحبة ودفء وحنـان.لـذلك
كنا نسعى دائما وغيرقابل للانتقاد. ً أن يكون سلوكنا جيداً
بدأنا نذهب إلى المدرسة، لقد افتتحت مدرسة صغيرة في
القرية، صفوفها كانت قليلة، لذلك فقد تنوعت أعمار التلاميـذ
في الصف الواحد، ومع ذلك فقد كانت تجربة مميزة ومفيـدة،
إذ أصبحنا ملزمين بدراسة عـدة مـواد تعليميـة فـي المدرسـة،
وحـين نعـود إلـى البيـت كانـت أم إليـاس تنتظرنـا لمراجعـة
الدروس ثم تحضير الدروس التالية.
في ليـالي الشـتاء الطويلـة، كانـت أم إليـاس تفـتح نوافـذ
موغلة في القدم، كنـت أنتقـل معهـا عبـر مراكـب خشـبية فـي
البحار…أدخل الغابـات والأراضـي البكـر… تنفـتح مخيلتـي
على عالم غير ذاك الموجود بين سطور الكتب.
حكاياتها عن شخصيات وأبطال لهم ملامح أخرى، وبيئة
تختلف تفاصيلها ، حكايات وأساطير تلهب الـروح ّعما نعرف
والخيال… كانت تحكي لنا عن عشبة الخلود التي سعى إليهـا
جلجــامش وأضــاعها، عــن أنكيــدو نصــف الإلــه ونصــف
الإنسان… عن عشتار التي نزلت إلى العالم السفلي كـي تعيـد
حبيبها آدون النعمان (أدونيس) إلى دورة الخصب والحياة.
حكت عن (بيرم وتسبين) وكيف شربت شجرة التوت من
دمائهما فتحولت إلـى اللـون الأحمـر…عـن أسـطورة الخلـق
والطوفان…عن أليسـار الأميـرة الفينيقيـة التـي بنـت قرطاجـة
وافتدتها بدمها… عن سرجون الآكادي الذي ّوحد بلاد الشـام
ّ وحول سلطة رجال الدين من سلطة مطلقة إلى مجرد مـوظفين
في الدولة.
مازلت أرى تلك الشخصيات تتحرك..هم أصدقائي حتى
الآن، يعيشــون معــي، أتمــثلهم بكــل جمــالهم وعطــائهم
وعــذاباتهم. مازلــت أســمع نــداء قــدموس تــردده الأشــجار
ً عن شقيقته أوروبا.
والجبال، وهو يصرخ باحثا
وحين حدثتنا عـن يوسـف العظمـة وبطولاتـه وتضـحياته
كانت تبرز أمامي صورة عبود…
لا أدري لماذا !! لكنني أعلم أنني معجب بشخصية عبـود
كثيرا بنظرة عينه الحادة والهادئـة، بجلسـته المتأنيـة ً وخصوصا
وما تخفيه من قلق وعذاب.
ً لا ينكسـر، َودُوداً مثـل شـجرة
ً لا يهزم، قويا
كنت أراه بطلا
البرتقال، وكنت أحلم أن أصبح مثله حين أكبر، وأقول لنفسي:
سوف أذهب إلى فلسـطين…سـأقاتل اليهـود وأصـرعهم
ببندقيتي….سأكمل ما فعله عبود وأم إلياس.
وحين أنامكنت أصوغ الأحـلامبشـكلها النهـائي…كانـت
فلسطين تتراءى لي وقد عاث اليهود فيها… ثم أدخلها مع شباب
آخرين…فيئزالرصاص، وتدوي القنابل فيتناثرون أشلاء.
مرة واحدة شاهدت عبود في الحلـم… كـان يجلـس فـي
دكانه حين جاء عمي يريد أن يأخذني معه… كان عبود جالسـا
بينما عمي يصرخ ّ ويهدد ّ ويلو … بهدوء ح بيده فـي وجـه عبـود
ً واحـدة أطاحـت بـه فـي الشـارع
ثم نهض عبود ولكمه لكمـة
المائل فتدحرج مع ميلانه إلى الأسفل البعيد.
ً بمـا رأيـت، حتـى بعـد أن
وحين استيقظت…كنت فرحـا
عرفت أنه مجر حلم، ذلك أنني كنت أتمنى هذا الأمر حتى لو ّد
كان في الحلم.
ً لدى معظم شباب القريـة
ً وحلما
أعتقد أن عبود كان مثالا
وموضع حسد منهم، وكـانوا يحلمـون بخـوض تجربتـه حـين
تسنح الظروف لهم.
* * *
حين بكى عبود رأيت دموع الحزن والقهر في عينه، حتـى
عينه المطفأة أحسست أنها قد فاضت دموعا.ً
كان ذلكبعد حوالي تسع سـنواتمـن عودتـهمـن فلسـطين،
كان ذلكفي شهر شباطمن عامألف وتسعمئة وسبعة وخمسين.
ُ كنـت وبـاقي الأطفـال فـي فنـاء البيـت، ننظـف أحـواض
الزرع، ونمارس هوايتنا اليومية باللعب.
تقرأ أحيانا، وتستمع ً أمإلياس – كعادتها – كانت في الغرفة،
وتصلح شيئا …. ً إلى المذياع أحيانا أخرى… من ثيابنا
ً ّ فجأة ْ خرجت من الغرفة،
مكفهرة واجمة، ْ خرجت مسرعة
الحزن والغضب ظاهرة على وجهها. ٌ ُ وملامح
مذهولين خائفين أمام مشهد ربما نراه لأول مر . ّ وقفنا ة
مر ، وعـادت أم اليـاس، ومعهـا جـاء ّت دقائق معـدودات
عبود، كان متوتراً ومنفعلا
ً، ثم خرج عبودبعدها…كان يبكي من غيـر
دخلا الغرفة قليلا
ً بالحزن إلى هذا ّ الحد.
صوت…. لأول مرة أرىعبودمكللا
لـم يـره أحـد فـي القريـة أبـدا…. ً ثلاثة أيام غابها عبـود،
ً، وكأنمـا قـد فارقتـه الحيـاة فـي
ً حزينا
وبعدها عاد، كان منهكا
تعابير جسده القليلة أصلا
لم نع التفاصيل في تلك الفترة، لم ندرك معنى ما حصـل، ِ
ّكل ما سمعناه هو فتات من كلام عن اغتيال غسـان جديـد فـي
ذلك ّ المقدم الذي عرفه عبود جيدا، القائد الذي قاتـل ً بيروت،
معه على أرض فلسطين.
ذهب ّ عبود إلى لبنان حينها، شارك في تشـيع الشـهيد، ثـم
عاد وقد ّحطم الانكسار آماله، و ّهد جسده،
وأزاح تفاؤله من غير رجعة.
ً أن يتعرض القادة
في مجرى الصراع مع العدو، يبدو مفهوما
والزعماء والأبطال إلى عمليات اغتيال أو تصفية… لكن السؤال
الذي حي : ّرني ّ وألح على ذهني كثيراًفي السنوات اللاحقة
ً لكـي يغتـال القائـد غسـان
ً فلسـطينيا
لماذا اختـاروا شـابا
جديد؟! وهو الذي قاتل في فلسطين، وهو الذي قاد البطولات
من أجلها ومن أجل سوريا…
أم كان مقصودا؟ ً أكان الاختيار مصادفة
فيما بعد أدركتأنهكان مقصودا، وكان متعمداً هذا الاختيار: ً
شاب من فلسطين يقتل قائدا !! ً ناضل من أجل فلسطين
والهدف هو التفتيت، وتحطيم الروابط الجامعة للأمة بأي
شكل وبأية وسيلة.
ً عن
ً عن الوطن، والكيانيةبديلا
لقد دعموامفهومالطائفة بديلا
الأمة، وبرقعوا المرأة بأغلال اللبـاس والعـادات ثـم جعلـوا القيـود
ومفاتيحها بيد الرجل،كي تنشغل الأمة بصـراعاتها، وتـتحطم ّ أهـم
مقوماتها المتمثلةبعظمةالتكامل بين المرأة والرجل.
وهكذا اختير القاتل فلسطينيا : ً لكي يقال
من قاتلت لأجلهم يا غسان هم الذين قتلوك.
ّ وسيتأكد لي ذلك فيما بعد… سـوى عشـر
إذ لـم تكـد تمـر
سنوات على هذه الحادثـة، حتـى ينـدفع العـدو الصـهيوني كـي
يختبرنتيجة مخططاته، ولكي يضفي لمسةمـن الإعجـاب يؤكـد
من خلالها أنه قادر على تحطيم وتفتيت المجتمع من الداخل.
فهو يدرك ومنذ مؤامرة سايكس بيكو أن وحدة الأمة تعني
النقيض لوجوده، وتعني العدم والفناء له.
وقعت الحرب عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين، وانتهت
الحرب، ونجح العدو فيما يخطط له….
ولم ِ تمض سوى عدة أسـابيع فقـط علـى انتهـاء الحـرب،
حتــى ســقطت أم إليــاس، إذ ّلفهــا المــوت وغــادرت زمــن
الهزيمـة…ربمـا كـي يحميهـا المـوت مـن ظـلال المصـائب
وتداعيات الروح المنهكة.
ماتت أم إلياس بهدوء ومـن دون اسـتعجال، ماتـت وهـي
ً تحاول ابتلاع نتائج الهزيمة، ّ لكن حل لـم
ً يابسـا
قهـا كـان جافـا
يستطع أن يبتلع ويهضم ما جرى…
ّغصت كثيرا، وحبست مع دموعها آخر أنفاسها…. كأنهـا ً
كانت تريد أن تلتحم بباطن الأرض، مثـل جـذور الشـجر، ولا
تفارقها أبدا.ً
ربماكان في موتها فرصة للآخرين كي يعوضوا عن الهزيمة
بارتداد مباغت على جثمانها، ارتداد يشبه قصائد الفخر الجاهلية
التي تحاول التعـويض عـن الشـعوربالدونيـة تجـاه الحضـارات
المحيطة بصحراء الكثبان الرملية والجفاف.
نهض يوسف قاطعا ، فتح باب الغرفة، ثم خطا ً كلام أسعد
خطوة واحدة خارجها، ربما كان يشعر برغبة في البكاء أو حتى
في الصراخ.
خيوط الليل واهنة كما خيوط القلب، وصوت نبـاح بعيـد
ّ يقض مضجع العلاقة المقدسة بين المطر والشجر والـذكريات
المنفتحة على أعوام مضت.
كان لا ّ بد من فنجان قهوة تفوح رائحة غليانها لتلقي تحية
الفجـر علـى قبـور مـن رحلـوا، فنجـان قهـوة يعيـد للأنفـاس
المتوترة استرخاءها وهدوءها.
ّ راح أسـعد يغلـي القهـوة بـبطء، كهـا انـدلعت
ّمـا حر
وكل
رائحة تنفذ عبر مسام الجلد وتسري فـي الجسـدين المنتشـيين
بحكايا تأخرت عن (ألف ليلة وليلة) مئات السنين.
لم يطل الصـمت… لقـد كـان ّ كـل منهمـا يشـعر برغبـة
ّ ملحة بالبوح.. وعلى الليل ألا يغادر نسيجه الأسـود قبـل أن
تكتمل الحكاية.
تابع أسعد وهو يرشف من فنجان القهوة:
اجتمع بضعة رجال وعدد أكبر من النساء مع بعض الصبية
في فناء الدار، ريثما يتم تجهيز أم إلياس.
ّ النساء يبكين، الرجال واجمون، ود فقد بدا وكأنه قد
أما عب
ف الحزن والبكاء بعد أن صار الحزن جـزءاً منـه، ََق َد القدرة على
ً ّ أقل من معاناته الدائمة
وصار البكاء تعبيرا . ً ضعيفا
كان ّ يدخن بشراهة وهو متكئ على جذع شجرة يابسة. حين
اختلطت أصوات الواقفين من الرجـال والنسـاء، وجـرى جـدال
ً بينهم عبرلغط صوتي يعكس لغط
وقصورا في التفكير: ً ا
– أين سندفنها؟!
– في المقبرة…
– أية مقبرة؟ هنا في مقبرة القرية؟!
– وهل يوجد غيرها؟!!
– سندفن امرأة مسيحية في مقبرتنا!!
– ومن قال إنها مسيحية؟
– اسمها، ثيابها، شعرها المكشوفمن تحتشالها الصغير.
ّمـت أولادنـا
– ولكن كيف تكون مسـيحية وهـي مـن عل
قراءة القرآن، وجعلتهم يحفظون عدداً من السور والآيات؟
– أقسم باالله إنني رأيتها تصالب بيدها على صدرها.
– ألم َتري القرآن في غرفتها….كانت تقرأ فيه كل ليلة.
صديقي ّ أن ،كان كمـن المشكلةيا من افتعل مثل هذه المشكلة
ًمن البهجةالإلهية على قلبه.
وجد قضيتهالكبرى، وأدخل نوعا
هكذا تبرز محدودية التفكير وضآلة الأهداف التـي يـؤمن
بها الأفراد حقيقة.
ِهم قد
لقد نسي هؤلاء المدافعون عن القداسة، أنهم َ بصمت
تواطؤوا على قتل زوجة عبود، وهم أنفسهم الـذين قتلـوا أمـي
لأنهم صمتوا عن كل ما فعله عمي بحقنا.
ُ قلت بلهجـة بـدت ضـعيفة مـع أنـي حاولـت أن أشـحنها
بقليل من الجرأة:
كانت تحدثنا عن االله وعن الإيمان، عن المحبـة والخيـر
والتسامح، عن الوطن، عـن العلـم والدراسـة، عـن التعـاون
وعن الصدق…
ارتفع صوت سـامح عـز الـدين بنبـرة عاليـة غاضـبة، لا
يمكن أن نسمح بـدفن هـذه المـرأة الغريبـة فـي مقابرنـا….
الأمر محسوم ٍ ومنته.
ود
ً حاسما
غير أن صوت عب جاء قاطعا
ستدفن أم إلياس في مقبرة القرية، ستدفن هنا بين موتانـا،
سيحضن تراب القرية جثمانها.
وحين سـمع بعـض الهمهمـة بـين المتواجـدين…كـأنهم
ارتفع صوته حادا:ً يعترضون على ما قال…
أمامكم ثلاثة خيارات:
إما أن تدفن في مقبـرة القريـة، أو سـأدفنها فـي فنـاء هـذه
الدار، أو…. فسأحرق القرية بمن فيها.
بي شعور ّ قوي بأن أعانق هذا الرجل، Ý استبد ورغبة شديدة
، أن أبقـى ْ أن أواسيه وأواسي نفسي بـه أن ّ أضم ، أن أقب ، ه ّل يده
إلى جانبه طوال العمر خادما . ً له
ً، يـزداد
في كل يوم وفي كل موقف كنت أراه كبيراً، رائعـا
ّق في ّ عيني إعجابي به، إلى درجـة أننـي كلمـا رأيتـه أسـمع
يتأل
صوت طلقات الرصاص هناك على تخوم فلسطين، حيث قاتل
كيلا نسقط ونرتدي ثياب هزيمتنا المذل . ّة
انتهى الأمر، ودفنت أم إلياس في هذه المقبرة، وعاد عبود
ً إلى ّدك ، من المـال كمـا أوصـت أم انه
وأعطاني المذياع ومبلغا
إلياس بذلك.
قضيت يومين في القرية فقط، هنا، بجانب قبرهـا، بكيـت
خلالهما أكثر مما بكت العرب قاطبة على (ضياع الأندلس).
ً بـالخزي
الفـرق بيننـا أن بكـاء العـرب كـان زائفـا ، ً ملوثـا
ِ َطع الروح ولهفة الضياع المر.
وبكائي كان ينزف مع ق
ً ليست لهم وهم بالأصـل
لا أعلم كيف بكى العرب أرضا
قد احتلوها…ولا يبكون فلسطين التي أضاعوها!!
* * *
على حجر بجانب قبرها حفرت عبارة داهمتني فجأة:
(وهذيالأرضأضيق من صهيل الروح على شرفاتمن رحلوا)
ثم انسحبت….
من دموعي أمـام قبرهـا، مهزوما
ً خجلا
انسحبت مخذولا
فلعلها الآن تسمع أو تشعر بحالتي ولا أريـدها أن تحـزن… لا ّ
ّـي، لا أريـد لهـذه اللحظـة أن تخـرج عـن
أريدها أن تزعـل من
سياقها وقد أدركت أنني على وشك الانهيار.
ُ أودعت المذياع عند عبـود، ثـم ودّعتـه علـى وعـد بـأن
حضنته ة، ّ ولأول مرة شعرت كم هـو ّ بقو تكون عودتي قريبة،
طيب وحنون.
انحدرت بي قـدماي نحـو طرطـوس، ابنـة الآلهـة، مدينـة
َ َهل، مدهشة Ýحد العشق،
صامتة هادئة تترنح علـى ّ تعيش على م
موسيقا الموج.
كان لي هدف واحد هنا، أن أحصل على الشهادة الثانوية، فمـا
:ً
زالتكلماتأمإلياسحاضرة في مخيلتي وتقرع رأسي دائما
(المعرفة قوة)
قلت لنفسي: لدراسة أولى درجات المعرفة… والدراسـة
الآن هي التي تحقق التوازن بين حياتين: حيـاتي مـع أم اليـاس
وحياتي من دونها.
استأجرت غرفـة فـي منطقـة الكـورنيش الجنـوبي، تقابـل
البحر تماما، حيث البيوت العتيقة التـي مـا زالـت تحـبس بـين ً
جدرانها أنفاس مـن رحلـوا، عبـق مـن الماضـي تجـد صـدى
تلاطمه مع موج البحر على الجدران والنوافذ والأبواب.
في المساءكنت أجلس على الحاف ، ّة الاسـمنتية للكـورنيش
أحاول أن ّ أفك ، أن أستمع إلى صوت الموج، ك تلـك الأصـوات
استخلص منها حكايا تشبه أمإلياس… ّ لعل صوت قدموس يأتي
من عمق البحر… أو ّ لعـل موجـة تحمـل أغنيـات أليسـار وهـي
تهدهد ثوران الموج وتلاطمه في أثناءرحلتها لبناء قرطاجة.
سألت نفسي ذات يوم:
كم امرأة ، ورشف من ندى أنوثتها، ٍ لامس ماء البحر جسدها
منذ أن تعل واء السباحة في هذا البحرالعظيم!! ّمت حفيدات ح
هذا الموج هـو نتيجـة اصـطراع نـدى أجسـاد النسـاء مـع
لزوجة ماء البحر…. هو فيض الأنوثة في ّذرات الماء….
ما السر … ّ … الذي يـدفع النـاس إلـى أعمـاق البحـر ّوإلا
ينعمـون بقـانون الجـذب، قـانون الملوحـة… قـانون الحيـاة
والجمال… وهو بالمحصلة قانون الأنوثة.
.ً
بعد شهر واحد، وجدت عملا
وقفت أمام دكان لبيع السـمك… عنـد بـاب الـدكان كـان
رجل يجلس على كرسي صغير من القش.
سألته وأنا : ّ أهم بالانسحاب
– ألديك عمل لي.
– نعم يوجد.
حقا؟!
– هل تتقن تنظيف السمك وتحضيره؟
قلت بخيبة: لا.
– لا بأس، ستتعلم… هيا ادخل.
صاحب الدكان (جابر) هو ابن طرطوس، يشبهها في كـل
شيء… رجـل هـادئ مبتسـم، متصـالح مـع ذاتـه، لـيس لديـه
مشكلة مع الحياة، بسيط بساطة امتداد مياه البحر…يساعد مـن
غير تردّد، ويبدو لي أن عمله أقرب إلى الهواية والحب منه إلى
العمل التجاري.
لم أكن العامل الوحيد في الدكان، بل كان معـي (رأفـت)
ً ّ شاب مع أنه قـديم فـي العمـل وخبرتـه جيـدة فـي
صغير نسبيا
تنظيف السمك وتحضيره، إذ ما إن يمسك السمكة حتى ينتهي
من تنظيفها خلال دقائق معدودة.
ازدادت ّهمةرأفت بعد دخولي العمل إلى جانبه، وراح يبرز
كل مهاراته، ربما لكي يشعرني بجهلي وقلة خبرتي، وربما لكـي
ّ يزهو بنفسه وكأ ي درجة وظيفية أرضت ذاته
ن . ّه قد ٌرق
جابر كان يقوم بالمهمـة التاليـة بعـد عملنـا، كـان ّ يحضـر
السمكة َ الحر ، أو السمك المشوي على الفحم بطريقة عظيمة Ýة
. ّ تنم عن هواية واستمتاع كبيرين
أسبوعان مر ، اكتشـفت خلالهمـا أننـي لا ّا على بدء عملي
، وأنني لا استلطف التعامل مع السـمك، مـع ّ أحب هذا العمل
أنني صرت أنجز العمل بسرعة أكبر…
كان جابر يلاحظ ذلك، كان يبتسم ثم يرشـف رشـفة مـن
ة أمامه فيها سائل أبيض اللون… وحينهـا لـم أكـن
كأس صغيرٍ
أعرف أنه َ العر . َق
مر في لحظة Ü تجل وهو يبتسم: ّ قال لي ذات ة
تعامل مع السمك برفق ومحبة فهي ابنة البحـر… لزوجتهـا
من لزوجته وسـحرها مـن سـحره….. غـاب صـوته…. عـدت
بمخيلتي إلى ندى أجساد النساء وهي تعاشر البحر فيفـيض هـذا
ً ويفيض عذوب
ً…. وتندلع أسرارالأنوثة بينهما. العشق سمكا
ة
أحببت السمك وأحببت عملي… صرت أمسك السـمكة
أقل ، ورحت أتعرف على أجزائها ّبها بين ّ يدي بكل رقة، بعذوبة
ّ وعلى مكامن روعتها، الذي تخفيـه وقـد
كنت أبحث عن السر
سرقته من عذوبة النساء.
لاحظ جابر التغير، فضحك ّ ومد كأسه الصغير ّ إلي:
بصحتك… هيا خذ رشفة… تستحق ذلك.
لم أتردّد، أخذت الكأس ورشفت رشفة صغيرة، لكنني لم
أستسغ طعمها، فأعدت الكأس.
مر ، وأبقى الكأس في يدي: ّ لكنه ابتسم ة أخرى
ّـا
لا يمكنك أن تعشق البحر والسمك من دون العرق…هي
جر . ّب مرة أخرى
أفرغـت نصـف الكـأس المتبقـي فـي فمـي فانـدلع نـاراً
كاوية…. ثم بعد لحظـات بـدأ دبيـب نـاعم يـداعب مسـامات
جسدي… فبدأت أغني.
أغنية جميلة بصوت نشـاز، أغنيـة مـن الأغـاني المفضـلة
ّ إليـاس،
كانـت تسـمعها كثيـرا…. وترددهـا بصـوتها ً لـدى أم
ً … ذاكر ، وتلاويح وطن ّ الأمومي الناعم
ً وحقولا
الدافق سهولا
يا ترى… سـورنا الأخضـرا… حيـث كانـت تفـيء الطيـور…
يومها حبنا…. كان في حينا…. قصة الورد لحن الزهور…
حين غنيت لم أكن مدركا م صوت فيـروز ً إن كنت أستخد
لقد امتزجا معا…. أحببت الأغنية وقتذاك ً أم صوت أم إلياس؟
ّمت بهـا
ّ كثيرا …. بـت ً وترن
لكننـي فـي اليـوم التـالي حـين جر
غناءها أحسسـت بـأنني قـد تجـاوزت حـدود الجمـال والفـن
والذوق…. في تلك اللحظة فقط أدركت أن العرق قادر علـى
تلوين حياتنا ببهجة وأطياف من رائحة عطر وجمال.
وما زاد في قناعتي تلك أنني عدت إلى ورقة صغيرة كنت
قد خربشت عليها بعض الكلام، في الليلة الماضية حـين كـان
دبيب قطرات العـرق مـازال يـداعب جسـدي. فجلسـت عنـد
النافذة ّ أتنشق عبير رائحة البحـر… وكنـت لحظتهـا أحـاول أن
أفــتح بــاب البحــر الــذي تختفــي وراءه ملايــين الأســرار…
ً وخربشت ما جاء في مخيلتي:
فأمسكت ورقة وقلما
وردة تغفو
على شباك روحي
ّها مطر من العطر
ظلـ
تشدو في الصباح أغنية
ً
وفي الليل نشيجا
من جروحي
* * *
مر ، لـم أواجـه ّت أشهر ّعدة على وجودي فـي طرطـوس
خلالها صعوبات تذكر، إلا ما كان يتعلق بالدراسة….
ّ لكن جابر كان يساهم فـي جوانـب مختلفـة بتجـاوز هـذه
ً الصعوبات، مثلي على أن
فقد كان مصمما
أحقق طموحي المبدئي بالحصول على الشهادة الثانويـة.
ربما كنوع من التعويض عن تقصيره
في دراسته، دون أن أغفل طبيعته الإنسانية الفطرية العفوية
والصادقة.
جابر وحيد والديه….
ً في الميناء، توفي وكان جابر ما يزال فـي
والده كان عاملا
العاشرة من عمره…. والدته توفيت
بعد ذلك بعام واحد…..
لـم يكـن لـديها ّعم (إنصاف) هي من تبنتـه بعـد ذلـك، ته
اهتمت به كثيرا،ً أولاد، فأصبح ابنها.
فحافظت له علـى منـزل الأسـرة الـذي ورثـه عـن والـده
ً
وأضافت له فيما بعد دكان السمك، وقاربا
لصيد السمك.
حين سألته ذات مرة: لماذا لم تتزوج وقـد شـارفت علـى
الثلاثين من عمرك؟ سرد لي باختصار
وقائع حياته….. ولم يجبني مباشرة عن سؤالي…..
ذلك ما أوقعني في حيرة…. فهل ما رواه لي هـو الإجابـة
ّه قد ّ غص بالإجابة؟
عن سؤالي؟ أم أن
هل وقع في ّ الحب وفشل؟….
حينما زرته في بيته البسيط، لفت انتباهي كثرة المرايـا فـي
غرفة الجلوس…. مرايا كبيرة ومتقابلة
…. فسألته عن ذلك…..
– المرايا هي الوحيدة التي تعكس عالمـك الحقيقـي بـلا
مواربة…. هي الوحيدة التي ّ ترتد بك إلى العمق
ً حـين تكـون
… عمق حياتك وعمق وجودك… خصوصا
حينها سترى نفسك تتكر ، ّ متقابلة ر في كل مرآة
تتكــر … وفــي النهايــة ستصــل إلــى ّر بأحجــام مختلفــة
صورتك الصغرى…. كأنك تتلاشى في المرآة….
تعود إلى الحضن الأول…. إلى حيث كنت مجـرد فكـرة
من البراءة والحلم.
في المرايا تكتشف جسدك من الأمام، من الجوانب كلها،
تكتشف في المرايا تفاصـيلك الحقيقيـة تكتشـف جسـدك مـن
الأمام، ومن الخلف، من الجوانب كلها، تكتشـف تفاصـيل لا
يمكن لك أن تعرفها إلا حين تتقابل المرايا….
حيث الذكريات وحيث الفضـاء المفتـوح علـى عـالم غيـر
عال غيرتنميق. َ مزي ، م حقيقي ّ يقدملك بطاقتك التفصيليةمن ّف
المرايا هي عمق أسرارنا وتحولاتنا، والمرايا هي الشاطئ
الذي يواجهنا بأحزاننا وأفراحنا وبتلك السـنوات التـي تسـكننا
في دواخلنا.
أعترف أننـي ٌ مـدين لجـابر بـالكثير، فأنـا الآن لا أسـتطيع
ً التي كنت سأدفعها
ً ونفسيا
ً وجسديا
معرفة التكلفة الباهظة ماديا
في مدينة طرطوس لو أنني في لحظة ما لـم أقـف ببـاب دكانـه
ً وأتعـرف إليـه بكـل ّجوانيتـه الهادئـة ومشـاعره
وأطلب عمـلا
المتأنية انفعاليا. ذلك الرجل المغموس بهواء مدينة الآلهة. ً
مر ، درسـت، وعملـت، ّ عامان على وجودي في طرطوس
وبدأت ملامح الحياة تأخذ شكل التحدي فـي مدينـة لا تخلـو
حياتها اليومية من تعقيدات اقتصادية واجتماعية.
وأخيـرا…. نلـت الشـهادة الثانويـة، فـانهمر فـي داخلـي ً
شعوران متناقضان…. فرح بالشهادة الثانوية والحلـم بـدخول
الجامعة…. وحزن على مفارقـة طرطـوس إلـى دمشـق حيـث
الجامعة، والرغبة في دراسة اللغة العربية….
* * *
مثل داليـة عتّقـت عناقيـدها، فسـالت نبيـذاً علـى حـواف
القلب، ومثل وردة تغفو على نافذة الروح وقد داهمهـا الفجـر
ـها مطر مـن العطـر، غيابهـا حضـور Þ فأفاقت على استحياء، ظل
وحضورها بهاء.
هــي ســيدة الأســماء، وهــي لوحــة الثلــوج التــي ترســم
ً يغـازل الغيمـات فـوق
خطوطها على الأغصان نشيداً فيروزيـا
ّخد الريح وأنين الوقت.
ً… فتح باب المدفأة ووضـع
توقف أسعد عن الكلام قليلا
قطعة حطب فيها كأنه أراد أن يضرم نار الذكريات في نفسه.
رشــف مــن فنجــان قهوتــه… وأغمــض عينيــه نصــف
ً إغماضة….
ثم عاد يناجي خلايا روحه وكأنه قد استردّ وميضا
من الذكريات.
ها وحيـدا، أو أحـلام ً الآن لا أعتقد أنني أمام صورة استردÞ
ها ذاكرتي بعيدا …. بـل سـتظل ً اختزنتْ في عتمة القلب والـروح َ
سيدة الحروف وهج الذاكرة وأنينها.
سأله يوسف:
أليس لها اسم؟
هي حروف الطبيعة وتجلياتها في الروح…. هي الندم لما
مضى وهي الألم لما سيأتي، وهي التبرعم مثل زهر اللوز حين
ينقر في الربيع على شبابيك الحياة.
لم يعد أمام يوسف إلا أن يصـغي لفتنـة الشـعراء…. ومـا
سيصنعه الكلام ّ المنمق حين تنهض الأنثـى مـن بـين السـطور
حقيقة فيعشقها الإله.
كل ، ّ هي الأسماء ها وأنا صانع الحكايا من حـروف عينيهـا
سأودع في هذه الغرفة Ýكل ذاكرتي…. أستحضر البحر والموج
والغيم والمطر… أستحضر كل اللغات القديمـة كـل الأشـعار
ّب مواعيدي معها بعد أن تنتصـب حقيقـة
وقصص الغزل، وأرت
أمــامي وحينهــا ســتكون ســيدة الــدوالي والعناقيــد المعتّقــة
واصطخاب الموج على شواطئ العمر.
البداياتيا صديقي متشابهة، خطوطها العامةكأنها في يد فنـان
واحد، وحروفهاكأنما يكتبها شاعرلهمذهبوحيد في الكتابة.
العواطف قد تشتعل فـي أضـيق الأمـاكن وأوسـعها علـى
السـواء، فـي المقـاهي التـي تثقلهـا حـوارات الثقافـة، أو فـي
المطـاعم التـي تلتهـب فيهـا روائـح الطعـام، أو فـي الحـدائق
العامة، أو في حافلات النقل.
لا أحد يسأل عن الانتماء الطبقي والوضع الاجتماعي، لا
أحد يسأل عن الأديان والطوائف تلك التابوهات التـي تكتفـي
بالنظر إلى ما حولها…لا تتدخل في البداية، لكنها في النهايات
مثل الموت تضرب ضربتها القاسية فتحطم وتجرح وتقتل مـن
غير نقطة دم واحدة.
ً… ومن دون أن يسـأل أو
ّ يوسف شفتيه ولوى عنقه قليلا
زم
يتكلم، أدرك أسعد أن عليه البوح أكثر والدخول في التفاصيل…
ُ عملــت فــي مركــز للخــدمات الجامعيــة، كنــت أكتــب
المحاضرات، وفي البيت أبدأ بمراجعتها وتدقيقها وتنقيحها…
ّه ٌ مفيد
ًمتعبا لي فهـو جـزء مهـم مـن دراسـتي ً لكن
كان عملا
وأحيانا شعري ًكنت ألجأ إلى المراجع المتعددة لضبط كتابة بيت
أو التدقيق في وزنهكي تكون المحاضرات صحيحة مكتملة.
أكاد أقول إنني أحببت عملي رغم صـعوبته، وأحببتـه رغـم
الوقت الذي استنفدني، لكنني في كل يومأشعرأنني أمتلك اللغة
أكثر، وأتجاوز الصعوبات التي كان يعاني منها كثير من الطـلاب
في دراسةموادتشعر وكأن فيها طعم رمال الصحراء الجافة.
صارلي معـارف وصـداقات، المعـارف كثيـرون والأصـدقاء
ً ثلاثةفقط… عشتمعهم حياة جميلةمتنوعة. وأن دمشق
خصوصا
تمنحكالقدرة على نهبالحياة والغوصفيها بكل تفاصيلها.
كانـت معظـم جلسـاتنا فـي مقهـى النـوفرة… الكمـال…
الهافانا جزءا ، منذ الساعة الثانيـة ً الروضة…. من حياتنا اليومية
ًموعد ً حين ينتهي دوامي في الجامعة
ظهرا ، وحتى العاشرة ليلا
عودتي إلى السكن الجامعي، كانت دمشـق تفـتح ذراعيهـا لنـا
فنسرع نحوها بكل ما في النفس من رغبة في الحياة.
ذات يوم طلب مني صاحب المركز أن أقوم بتدقيق بعض
محاضرات قسم (علم الاجتماع) ولأنني أحب الاطلاع وزيادة
ولأنني أعتبر عملي مع هذا المركز جـزءاً ثقافتي من جهة، مـن
توازن عالمي الداخلي وعالمي المعيشي فقد رحبت بالفكرة.
كان الموعد يوم الخميس في السـاعة الثالثـة بعـد الظهـر،
وصلت قبل الموعد بقليل، لم يكن ّ لدي ما يشغلني، ولم يكـن
. ّ لدي مشكلة في الانتظار
بعد أقل من عشرين دقيقة…….
حضرت ببهائها وسطوة أنوثتها، حضـرت سـيدة الانتظـار
الجميل، سيدة الحروف المطرزة بالمطر ووحي الاشتهاء.
أية لغة سوف أمتلكها الآن؟! ّ
صاحت قواميس اللغة في داخلي….
أية حروف سوف تتشكل على صفحات قلبي !! ّ
ّ
ْها على فسحة الروح !! َ ة غيمة َ أمط أي
رت
ٌ ما أصابتني، هـا
ُ تجمـدت أطرافـي كل ، Ý ـح الصـوت ّ دهشة
ب
حتى غدا هسيسا . ً لجمر أطفأته رشقة ماء باردة
كلماتها همس، وإشـاراتها ّغصـة فـي القلـب…. نـاولتني
ّنار على سـياج القلـب
الأوراق بأطراف أصابعها فتعمشق الجل
ً في
والروح، هذا الزهر المورق فوق أصابعها يتعمشق مشاكسا
مجرى دمي….طلاء أظافرها باقة من ورد جـوري أو مـن مـاء
ّانة تشققت على الغصن فسالت روحا . ً للحياة
رم
ّنـار صـعد َ
حين ذهب ْت، زاد الخدر في جسدي، زهـر الجل
في شراييني، مشـى مـع دمـي نحـو القلـب…وزهـر الياسـمين
أشعل الحرائق في روحي.
قاطعــه يوســف: كأنــك أنــا !!! مــن النظــرة الأولــى….
أصابتك من دون تم ّهل !!
– نعــم يــا صــديقي، هــي لــم تصــبني، بــل، رمتنــي….
صـرعتني…. انتزعتنـي مـن عـالمي الرتيـب إلـى حقـول بـلا
أسيجة، إلى سماء من فوضى الغيوم…. لا أعلم كيف أعادتني
ّ إلياس.
إلى أمسيات القرية حيث حكايا أم
ً أدونيس القتيل في العالم السفلي….
أدونيس النازف دمـا
ً Ú ّ ، لـون الطبيعـة
ومـن دمـه تفتحـت شـقائق النعمـان سـرا أبـديا
للخلود، أدونيس المطفأ شهوة وانكسار عشق.
حين تطل عشتار مجتازة بوابـات العـالم السـفلي يحـاول
فتُـ ِوهن قـدماه حيـث أصـابه الخنزيـر البـري…. َ النهـوض…
يحاول مرة أخرى فتصرخ (أرشكيجال) أن احذر…. ّ يمد يـده
إلى عشتار…. ّ تمد يدها إليه،
فترفعه إلى أعلى إلى النور والحياة.
لكنني اليوم أدونيس العاشق المخذول ّ أمد يدي فيسحبني
السراب إلى وهم الغيم… يشـدني إلـى مـا تنـافر مـن السـياج
لكنه دم جاف مالح ّ حـار…. الشائك للحقل Þ فينز دمي كثيرا… ً
لا تشربه الورود ولا تنتعش به شقائق النعمان.
انطوى قلبي على قلبي، واستبدت روحـي بـي، ُ خضـعت
للهـدوء والشـرود، هكـذا Þ تـرف فـوق حياتـك مشـاعر دافقـة،
تخشـى أن تفقـدها فـي لحظـة، تخشـى أن تفتـرس أحلامـك،
فتصبح على حياد الوقت…. ّ تتسـمر مثـل لوحـة جميلـة علـى
حائط من الصبر.
لاحظ أصدقائي أنني هائم في المكان والزمان والوجـود،
تغادرني نظراتي لتبحث عن أميرتي بين الوجـوه…. فـلا أجـد
إلا خيوطا …. ً ترسم معالم غير واضحة لها
في البدء، تكاثرت الأسئلة…. وازدحم رأسي بأفكار غيـر
نهائية وبأسئلة ساذجة تتغير مع تقلبات الليل والنهار….
بعد انقطاعي لمدة يومين عن الجامعـة ولقـاء الأصـدقاء،
جاءني الأصدقاء الثلاثة للاطمئنان… وكان حديث طويل عـن
الحب، عن النظرة الأولى… عن السهم الأول من تلك الأميرة
التي احتلت فسحة المكان والزمان والقلب.
اليوم خمر وغدا !! ً اقترح أحدهم: أمر
ّ تعـددت أراء الأصـدقاء حـول المكـان المناسـب لقضـاء
سـهرة ممتعـة…أحـدهم اقتـرح (قصـر البلـور) وآخـر اقتـرح
(القنديل) والثالث اقترح (الفريدي) وهكذا كان.
(الفريدي) حانة يصـعب وصـفها، صـغيرة دافئـة حنونـة،
طاولاتها العشر الصـغيرة متلاصـقة. تأنسـها لحظـة الـدخول،
الدخان المتصاعد من السجائر يشعل منها غابة ّ تلتف أغصانها
ً بانعتـاق الـروح
وتمتزج فيهـا نكهـات التبـغ لتعطيـك انطباعـا
وتحررها، بانكسار الخوف والرهبة.
َ ُلاصــ ُق طاولاتهــا لا يســمح لــك بتمييــز الأصــوات
ت
لاختلاطها ولكثرة المتحدثين…..
كأنها خمارة أبي نواس العباسية تلهو بالعقول وتفرش في
فضائها طمأنينة وودا… ً
كثيرا… وبـدءاً مـن الكـأس الثالثـة لاح ً ُ شربت… ُ شربت
طيفها بـين الكـأس وظل ، ْ مشـت صـورتها ّ تهتـز علـى سـطح ßـه
السائل الأبيض موجـة تـدفع موجـة، كلمـا ُ رشـفت مـن ذلـك
ً. السائل ْ نهضت
ً جديدة
موجة
تعتّق الخمر كثيرا، تعتّقت صورتها، تعتّق قلبي وسال على ً
ضفاف تفاصيل متلاحقة، ْ فانفتحت أبواب الأفق أمام ّ عينـي…
وانهارت اللغة.
منذ تلك اللحظة صارت سيدة الحـروف هـي اللغـة التـي
تفاصيل ملحمة . ُ تكتب من وعد وانتظار تصوغني…
سـيظل الانتظــار هــو المــدى الـذي تســير عليــه روحــي
فأجد نفسي عاجزاً نحوها…كلما ُ دنوت منها تهرب اللغة أكثر،
أمام ُسلطة عينيها.
هي حـروف القصـائد وانفعالاتهـا…هـي ومـيض الأمـل
البعيد البعيد.
أحاول مع كل كأس أن أكتب حضورها جملة شعر…
لكنما الكلمات تتبعثر فتضيق الروح عن مساحة عينيها.
أعود للكأس أرشـفها ثـم أحـاول…. لكـن…. لا يمكـن
لقصيدة أن تستقيم إن لم تكن حروفها من حروف اسمها، مـن
ً
ً عارمـا
وحـي َش ، مــن أصــابع يــديها ِ ــعرها المسترســل موجــا
الممدودتين نحو غيم العطر والهذيان.
سهرة جميلةامتزجت فيها تلاوين الحزن والفرح، أو بالمعنى
رق . ّ الأدق… مشاعرالقلق والت ب بمشاعرالأمل الجميل
أعجبتني تلك الآلةالموسيقيةالتي تضع فيهـا نصـف ليـرة ثـم
تسجل رقم أغنية تختارها لينطلق صوت ناظم الغزالي عابراً حـدود
العقل مباشرة نحو القلب…. في تلكاللحظاتكنتأنسـحبمـع
صوته بعيدا….. أنسحب إلى حيث تلهو بخصلات شعرها، وكنت ً
ّنة…. كما لو أنني خيطدخان في مرمى الضـوء،
أتابع ابتسامتها المقن
من دون أن أنتبهإلى تعليقاتالأصدقاء وضحكاتهم.
ّ لكن انتباهي انسحب نحو حكاية رواها أحـد النـدلاء فـي
الحانة. عن رجل عجوز من رواد الحانة، وكيف نام فـي زاويـة
من زواياها. وأغلق العاملون باب الحانة في أواخر ليلة شـتائية
صاخبة منذ عدة سنوات.
في صباح اليـوم التـالي وجـد الرجـل ميتـا، بعـد أن شـرب ً
الكثير، إذ يبدو أنه صحا من نومه على إيقاع وحدة موحشة قاتلة،
فأخذ يترع الكؤوس حتى سقط مضرجا . ً بوحدته القاسية
لم أعرف وأنا أستمع إلى حكاية الرجل العجوز، كـم مـن
ّ الأفكار انتابتني، ت فـي شـريط
وكم من الصور المتلاحقـة مـر
ّلت الرجل منذ لحظـة اسـتيقاظه مـروراً
سريع أمامي…… تخي
بالساعات القليلة التي قضاها وحيدا مع ظلال حياته التي قادته ً
ٍ في النهاية إلى فضاء واسع رغم ضيق المكان… ّ مـد
إلى سماء
إليها يديه كي يتشب . ّث بغيومها العالية
وكـان ّ علـي مر ة أيام على تلك السـهرة، أن أرتـب ّت ثلاث
كنت محاصرا … وكـان الانتظـار ً لموعد معها… بشوق ورغبة
وحده يعني المزيد من الألم للقلب.
ذهبت إلى المكتبة، وطلبت من صـاحبها أن أقابلهـا، لأن
في أوراقها بعض الجمـل والتراكيـب غيـر مترابطـة ولا تـؤدي
لمعنى واضح، عدا عن أن بعض الكلمات غير مقروءة عندي
قال لي بلا مبالاة:
ستأتي بعد نصف ساعة تقريبا، يمكنك أن تنتظرهـا، لكـن ً
أرجو أن ينتهـي الموضـوع اليـوم لأن المحاضـرات يجـب أن
تطبع وتوزع.
في هذا النفق الواصل بين طرفي الاوتستراد كانت مجموعة
من المكتبات ّ تتوزع ّ وتوزع خدماتها، إضافة إلى بعضالمحلات
التـي تقـدمالمشـروبات السـاخنة والعصـائر وبعـض الأطعمـة،
وأمامها تناثرت بعض الكراسي والطاولات الصـغيرة. فجلسـت
إلى إحدى هذه الطاولات غيربعيد عن المكتبة.
طلبت فنجانا ، ومارست ّ لذة الانتظار على وقـع ً من القهوة
ً مـن
ّب في ذهني شيئا
هدهدة الحلم والأمل… وحاولت أن أرت
الكلام الذي سأقوله… والذي انهار بمجرد أن ْ حضرت….
ْ طلبت الأوراق لكي ترى المشكلة فيها، دفعتها إليها ببطء
ّ مقصود، فمدت يدها لتأخذها…. نـار
وحينها اشتعل زهـر الجل
على أصابع يديها، طلاء أظافرها الذي يدمي القلب بـدا اليـوم
وكأنه حقول منبسطة تتماوج كما تتماوج الأحلام في داخلي.
مع أوراقها، ُ وضعت لها ورقة خاصـة فـي المقدمـة، وقـد
اكتفيت بأن سجلت لها ما كتبته خلال سهرة (الفريدي):
لا تنظري إلى البعيد البعيد
فثمة قلب يدنو منك
هو أقرب إليك….
من حبل الوريد
َ ً
ْهــا مــن دون أن تتفاجــأ، أزاحــت وجههــا قلــيلا
قرأت
ً مـا فـي نظراتهـا
وابتسمت، ابتسامة فيها خجـل، غيـر أن شـيئا
عاجلني بالحيرة والغموض.
بــدأ الممــر بمجــاميع الطلبــة فــي الاتجــاهين، ّ يــزدحم
والأصوات بدأت تطغى على المكان…. حين راحـت تحكـي
بجدي . ّة ودقة
كانــت التماعــة عينيهــا تشــغلني أحيانــا ، ً ّعمــا تقــول
والأصوات التـي تمـلأ النفـق تـذهب بصـدى الكلمـات نحـو
.ً
سقف وطيء فتتلاشى سريعا
حديثها يوحي بأنها تعرضت لتجارب سابقة مشـابهة، لـذا
فما كانت تقوله لم يكن إلا خلاصة أقوال سبق وأن حكتها.
ْت عن العادات والتقاليد، عن اختلاف الطوائف، عـن َحك
الغنى والفقر، عن البيئات المختلفة.
كل تلك الجمل والمفردات انهمرت كما المطر الآن.
ً للنقاش،
ولم يكن موقفها شخصـيا،ً لم يكن حديثها قابلا
بل كان محكوما أنـا ويعيشـه آلاف ً بواقع تعيشـه هـي وأعيشـه
الناس عبر سنين طويلة…..
َح ْت لي بيـدها…. ربمـا كانـت تعـرف مـاذا ّ لو َ نهض ْت…
تعني تلك الحقول المرابطـة علـى حـدود يـدها وأصـابعها…
التفتت ّ إلي : وقبل أن تمشي… وقالت
ً أنني إنسـانة
جميل ما َ كتبت، سأحتفظ به، كي أتذكر دائما
جديرة . ّ بالحب وجديرة بالأنوثة
لم تكن هي التي تبتعد…. كانت الأرض تجري مسـرعة،
بينما الطلبة المارون يمشون ببطء كما لو أنـه شـريط سـينمائي
يعرض على البطيء…. وحدها كانت مسرعة، وكأنما الأرض
تسير بها وحدها تدفعها بقوة خارج فضـاء ملتهـب…. ولكنهـا
في الحقيقـة كانـت هـي الفضـاء الـذي احتـواني….. صـدقها
شفيف، وروحها مثل زهرة شقائق النعمان الهفهافة فـي مهـب
ً
نسيم الربيع وهي تقطر حزنا . ً وولها
رفع يوسف وجهـه عـن بـاطن كفـه….. نظـر إلـى أسـعد
َ ْن كان يحكي الحكاية؟!
وللحظة لم يدرك م
أهو الذي أفاض القول؟
أم أسـعد المربـك مـن تـاريخ هـرب منـه؟ ومـن منهمـا
المهزوم في عالم أضيق من الحلم والحياة.
ربما أدرك أسعد من نظرة يوسف إليه ما يجـول فـي خـاطر
الأخير…. لمح ارتعاشة الخواطر المتداخلة…. نهض من مكانه
وفتح باب الغرفة…. كانت خيوط الفجر الأولى قد بدأت تلـتهم
شيئا …. سـرت ً مـن خيـوط الليـل المتدليـة نحـو وجـه الأرض
قشعريرة الكون المنبعثـة مـع دفقـة بـرد مـنعش….. وإذ أبرقـت
السماء في لحظة بدت شاهدات القبور وكأنهـا قـد نهضـت مـن
ً بعد مطرمتواصل غسل ما
قيامة ّ متجددة، وبدا قبرأمالياس لامعا
تراكم من غبار وأوراق شجر على سطحه.
قال أسعد وهو يبتعد بنظره إلى أفق من شجر وغيم ومطـر
موعود:
َ
الصدق ّ أخف على الروح من ألم الخديعة، كأنه يـأتي ُم ل
ممزوجا ، ّ يخدر عواطفك ويمنحهـا قـدرة علـى ً بجمال خاص
التحمل…. هذا ما أحسست به في تلك الجلسة.
ولأن أم إليــاس حاضــرة فــي وجــودي وكيــاني، فقــد
حاصرتني منذ تلـك اللحظـة، كأنهـا قـد اسـتمعت وشـاهدت
وعرفت ّكل ما حصل.
لذلك فقد ُ ابتسمت ُ وهويت من دون ألم، ومن دون شعور
بفجيعة أدركت أنها ستلازمني لو حصلت.
أمإلياس التي ظلت طوال وجودي معها تردّد(المعرفة قوة)
منحتني قوة على أن أمنح ّ الحب للحياة، وأن أنثـر عـواطفي مـن
دون قيود، وأن أشعل فـي روحـي التـوق لحيـاة لا تتجـ ّزأ عليهـا
الطائفية ولا العصبيات ولا الأنساب ولا العادات والتقاليد.
ولأجل ذلك…عدت إلى هنا بعد أن أنهيـت دراسـتي….
عدت حارسا … عدت شاهداً و…. شهيداً. ً للحكايا
* * *
ً انتهى ضوء الصباح من التهام آخر خيوط
منذ ساعة تقريبا
الليل، والسيارة التي أقلت يوسـف تتحـرك بـبطء علـى شـارع
تناثرت الحفر فيه وخصوصا . ً بعد ليلة شديدة الأمطار
ً من قريـة الزهـرة يلـوح البحـر فـي
الطريق المتعرج نزولا
ً آخره وقد اندلع فيه الموج عنيف
ا . ً مضطربا
ً أن يمسـك
فتح يوسف زجاج السـيارة ّ ومـد يـده محـاولا
بأطراف غيمـة سـوداء تنـدفع باتجـاه (الزهـرة) كأنمـا يريـد أن
يخبئ تلك الغيمة في جيبه، قال في نفسه:
سأفرد هذه الغيمة في غرفتـي، وسـأحادثها كـل ليلـة…..
فثمة كلام كثير ضاع عن تسلسل الحوادث والحكايا في الليلـة
الماضية. كلام أكبر من ليلة واحدة…….. انتبه فجأة….
ولكن ّ أي ؟ أختي رهف في المشفى…….. مشفى
هل انتهت ولادتها وعادت إلى بيتها؟
ربما ما زالت تحت الولادة، ربمـا تنتظـر مجيئـي لرؤيتهـا
ورؤية مولودها. ولكنني لا أعرف أين سأجدها……؟
علا هدير محرك السيارة، وا ّشتد الهواء وهو يعبث بالحـد
الفاصل بين زجاج السيارة المفتوح وفضاء الطريق……
في قلب المدينة أوقف سيارة أجرة.
وقال للسائق:
ً أريد أن تأخذني إلى كل مشافي المدينة، المشافي
خصوصا
الخاصــة بــالولادة….. دارت الســيارة……. ودارت شــوارع
المدينة…. ودارت الأفكارفي رأسه المثقل بأمل ولادة قادمة
* * *
الإهداء …………………………………………….. ٥
ارتعاشة المطر………………………………………. ٩
وحشة المقبرة …………………………………….. ١٩
مقدمة متأخرة……………………………………… ٢٦
حنين …………………………………………….. ٢٩
وهم الموجة………………………………………. ٣٩
شجرة العائلة ……………………………………… ٤٧
لعبة القدر…………………………………………. ٥٣
َ
………………………………………………. ٦٣ْ و ٌح ب
عبود……………………………………………… ٦٥
أم إلياس………………………………………….. ٧٢
حياة جديدة……………………………………….. ٨٠
حين بكى عبود ……………………………………. ٨٨
باب البحر ………………………………………… ٩٧
جابر……………………………………………..١٠٤
سيدة الحروف…………………………………….١٠٩
وتلك خيبة أخرى………………………………….١١٩
الولادة القادمة…………………………………….١٢٥
فهرس ……………………………………………١٢٧
* * *
إخراج: عمار البخاري