إن قتل القنصل… إعدموه
بقلم : محمد نجار
التقينا على فنجان من القهوة في بلاد بعيدة في الغربة، صرنا نقلّب صفحات الماضي كعادتنا في تلك البلدان، ربما من باب التملّص أو رفع العتب عن الذات، لأننا لا نستطيع جلدها بشكل دائم. أو لعلّه من باب الشعور أن وراءنا ماض نعتز به، أو هو نوع من الهروب للأمام بأنّا كنا ذات يوم مناضلين وذي شأن.
لا أريد أن أقحم نفسي في الموضوع بهذا الشكل المباشر الفج، فأنا لم أكن مثل صديقي كامل. فهو من كان السجن بيته وليس أنا، وهو الذي كان يأكل العصي كما يقولون، ومثلي لم يستطع حتى عدّها. لكن لكل منا دوره في هذه الحياة، وأن تفعل شيئاً مهما كان بسيطاً، أفضل بكثير من أن تقيد يديك وتحملق في سقف الغرفة. كما ترون أنا الذي أخط شيئاً من كلماته لتعرفونها، فهو يعتبر قصصه هذه لا تعني سوى الشيء القليل، ولكنني أراها تعني الكثير الكثير. لهذا سأخطها كما هي، دون زيادات تجميلية، بل من باب أمانة النقل وليس فلسفته. قال لي:
ـ ربما لا تعرف والدي… لك أن تتخيل رجلاً عاش ما يقارب القرن، لكنه لم يُسئ يوماً لأحدٍ في حياته! لم يُغضب أحداً!، يقسو علينا إن أسأنا بقدر حنو أب وعطف أم وحنانهما ويزيد. لم يستطع يوماً فهم إنسان يُغضب أحداً، ويكون قادراً على أن يغلق، في ظلمات الليل، عينيه وينام.
تابع وهو ينظر في اللاشيء، كأنه يرى والده أمامه:
ـ إنه إنسان بسيط طيب إلى درجة السذاجة في عيون البعض، لكنه رجل حكيم في رأيي أنا، ربما لأنه والدي! وربما لأنني أُصنّف نفسي بسيطاً مثله، فأرى في كلماته حِكَمَاً. لذلك فالأمر بالنسبة لي، لا يخضع لنقاش أو جدال.
كان الوقت عصراً عندما التقينا، والمقاهي في هذه البلدان مكتظة بالناس، الغيوم في هذا الوقت من السنة تكون منفلتة سارحة في فضاءات السماء مثل قطيع خراف، وصل لتوه من الصحراء الى حقول خضراء معشوشبة دون نهايات. فانطلق متبعثراً في أماكن متجمعاً في أخرى، متحركاً في كل الأماكن والاتجاهات على غير هدى. هدّه التعب لكن الجوع اكثر، فصار يقطع بأسنانه العشب مسرعاً متخوفاً من انتهائه قبل أن يسد جوعه. كن النساء في المقهى يحتسين كاسات النبيذ أو الجعة وقد نزعن حِمْل الملابس الثقيل من فوق أذرعهن العارية أو نصف العارية. معلنات، دون ضجيج، عن درجات حرارة النهار المرتفعة في ذلك اليوم الربيعي، الذي يسير دون توقف، إلى نهايته الأكيدة، يقابلهن حبيب أو صديق أو زوج أو رفيق. تعلو قليلاً أو تهبط ثرثراتهم، وكامل وأنا، نشرب القهوة على طاولة منزوية بعيدة في أقصى المقهى، وكلماته تنز من حلقه، ليقذف بها لسانه مباشرة في أذنيّ، وعقلي يسجلها بقلم مخبأ في ثناياه دون أن يراه كامل الذي ظل يتابع، عندما رآني أنظر إليه باهتمام دون أن أقاطعه:
ـ كان المرحوم أبي يظل يحدثني عن “بيت عفّا”، قريتنا المنسية في جنوب فلسطين، مؤكد أنك لم تسمع بها. تُحيط بها العديد من القرى والمدن الفلسطينية، مثل عراق السويدان وعبدس وبربرة وحمامة وجولس والسوافير والجلدية وبيت داراس، وكرتيا وعشرات من القرى الأخرى. كانت على مرمى العصا من المجدل والفالوجة. أصوات الرصاص تُسمع من بعيد، الثوار يتجمعون ليدفعوا العصابات بعيداً عن أراضيهم، تلك العصابات التي أتت من بعيد بمساعدة الإنجليز. لجأ الثوار لبيع ذهبات نسائهم ليشتروا حفنة رصاص أو بندقية عتيقة ما زال بها بقية حياة.
ـ الناس كانوا مُوَحَدين متضامنين، قلوبهم على قلوب بعض.
قال والدي وأكمل:
ـ هل هناك ما يمكن أن يوحدهم أكثر من الدفاع عن قراهم؟!
قال كامل وتابع، أكمل والدي الحديث متأثراً بما سيقول، وكأن تأثير ما سيقوله يداهمه بشكل مسبق:
ـ حاولوا اقتحام القرية أكثر من مرة، لكن الرجال يابني لا يُفرطون في شرفهم، وهل هناك شرف يطغى على شرف القرية؟ حتى عندما احتلوها من أيدي الثوار، حررها الرجال من جديد. ولما عادوا لاحتلالها بصعوبة كبيرة في المرة الثانية، حررها الرجال مرة أخرى، دفعوا مقابل ذلك دماً وأسرى ذبحتهم عصاباتهم كالخراف. كان يمكن تلخيص الرجل أو اختزاله آنذاك بالجرأة، فمن لم يكن مقداماً مواجهاً شجاعاً لم يكن يُعد من بين صفوف الرجال. لما عادوا واستقدموا المئات من رجال عصاباتهم وسلاحهم الجديد واحتلوها، حررها رجال مصر هذه المرة، رغم السلاح الفاسد الذي ورّدوه لهم. عندما كان المرحوم عبد الناصر يقود غرفة عملياته ويقاتل في الفالوجة، مُدركاً أن احتلال فلسطين مقدمة لاحتلال مصر والعالم العربي كله. وأن فلسطين لم تكن أبداً الهدف الوحيد، بل هي العنوان الذي يُغطي الأهداف الحقيقية المُخبأة في أدراج السياسة، لذلك ظل يقاتل ويرفض الأوامر القادمة من خلف جدران القصور.
ظلّ والدي يتابع:
ـ كان لنا هناك بضعة دونمات يا بني، وصيتكم بها، لا تتركوها في أيدي هؤلاء. عملنا أنا وجدك وشقينا لشرائها، سجلنا بعضها باسم أعمامك الذين كانوا صغاراً حينئذٍ، وسجلنا القليل منها باسمي واسم جدك، لم يكن أحد يفرق بين نفسه وبين أخيه أو عائلته.
استدار بوجهه نحوي وكأن كلمات المُلْكية هذه لم تكن إلا مقدمة ضرورية لما سيقول:
ـ إحفظ ما سأقوله لك:
صار يُسمي لي المناطق التي اشترى منها، جعلني أسجل أسماء الناس الذي اشترى منهم، رغم أن بعضهم صاروا في دنيا الحق. وتابع:
ـ عليكم الرجوع إلى هناك، مهما كانت الصعوبة عليكم الرجوع، أعرف أن الطريق صعب وطويل، لكن “لا يحرث الأرض غير عجولها”، مدوا أياديكم واقتلعوهم من أرضنا. من لا أرض له لن يجد مكاناً تقف عليه قدماه في هذا العالم. تظل وقفته خاوية ضعيفة معرضة لتطيح بها حفنة من رياح. تشبثوا بها واحضنوا أشجار المكان لئلاّ تنتزعكم العواصف. من لديه جذور سابحة في طيات التراب ليس من السهل انتزاعه، وإن انتزعوه برعمت جذوره من جديد. أعرف انهم لم يُبقوا غير بضع شجرات من الجميز والصبار، وأنهم اقتلعوا البيوت وحدائق المنازل والعمران كله ، وأهالوا التراب في بئر الماء الوحيد بعد أن سمموا مياهه كي لا نعود، معتقدين أنهم مسحوا آثارنا. لكن تلك الشجيرات نحن من زرعها وسقاها وكبرها، هي شهادة لنا، فبصمات أيدينا مازالت على كل غصن ووريقة منها. لذلك يا بني وصيتكم بيت عفّا… أتفهم؟ بيت عفّا… لأننا سنبنيها من جديد، وسنجعلها أجمل بكثير.
قلت له:
ـ كنت أعتقد أنك ستقول لي “وصيتك فلسطين يا أبي وليس بيت عفّا فقط”.
لم أره يلبسه الغضب إلى هذه الدرجة، قال:
ـ هل تكتمل فلسطين دون بيت عفّا ياولد؟ ألم أُعَلِّمك أن من يفرط في بيت عفّا يفرط بفلسطين؟ لا تصدق أحداً مهما علا شأنه يُفرط ببيته مدعياً أنه يريد تحرير فلسطين، مَنْ لا خير منه لبيته، لبلدته، لقريته، لمدينته، لا خير يرجى منه لفلسطين، ومن لا خير منه لأهله لا خير منه للآخرين، أفهمت الآن؟!
قبلت رأسه كعلامة اعتذار، وقبِل اعتذاري بقلبه الواسع بصعوبة، علّه أراد أن لا أنسى هذا الدرس أبداً. كما ترى فأنا لم أنسه.
وسكت كامل عن الحديث، فقلت كي لا أظل صامتاً مثل أخرس:
ـ وما الذي ذكرك به الآن؟
قال بتأكيد شديد:
ـ لعلني لم أنسه أبداً ، خاصة عندما أكون محتاجاً لحِكَمه، وأكاد أجزم أنه يحضر هو بذاته ليعلمني درساً جديداً في كل مرة، لكني تذكرت الآن أمراً استوجب حضوره من جديد.
ـ ما هو؟
سألت وقد راودني الفضول، فقال:
ـ كنت في التحقيق بعدما أنهيت سنوات دراستي، وكان التحقيق جاداً، كونهم، كما استخلصت، لديهم أسباب تستدعي سجني في عرف دولتهم.
ضحك كامل ورسم بشاهديه علامة قوسين، وكأنه أراد أن يخبرني بجملة معترضة وسط كلامه وقال:
ـ لعلني يجب أن أخبرك أن أبي يعرف كلمة “القنصل”، وربما لا يعرف معناها بالضبط، كما لا يعرف عمل أو وظيفة القنصل. لكنه يجزم بينه وبين نفسه أنها الوظيفة الأرفع في التاريخ، ومَنْ يصل إليها يكون قد أتم كل شيء، ويكون قد وصل إلى درجة الكمال، يعني “خَتَم العلم” كما نقول نحن المثقفون هازئين.
إتسعت ابتسامته التي ظلت متشبثة بشفتيه رافضة النزول، وأكمل:
ـ لما استعصيت عليهم في التحقيق، واقتنعوا أن الصخرة التي بين أيديهم لن تنز ماءً أبداً، قرروا أن يلجأوا لوسائل ضغط علي، فأحضروا والدي.
كان كامل يسحب أنفاساً من سيجارته وينظر إلى السماء، وكأن والده ينظر الينا من علوّه هناك مناشداً ابنه التمسك بالحقيقة فقط، وتابع:
ـ أجلسه ضابط التحقيق مقابله، بدأ بإقناعه ليحدثني ويقنعني بالتجاوب معهم، وقال له:
ـ إنّ لنا عند ولدك دَيْناً ياحاج، وجاء الوقت لسداده، فإنْ أبى التسديد حاكمناه وسجناه، وإن سدد تجده في بيتك قبل أن تصل له، هذا إذا لم تأخذه بيدك وأنت مغادر من هنا.
اقترب أبي بكرسيه من الضابط وسأل، بكل ما فيه من غضب، باستهزاء:
ـ وهل تأكدتم أن ابني هو مَنْ قتل القنصل؟
كان استغراب الضابط كبيراً، فسأل أبي يريد أن يعرف أكثر، واعتقد أن هناك صيداً ثميناً، مادام الحديث يجري عن عملية قتل، فقال:
ـ القنصل؟! عن أي قنصل تتحدث يا حاج؟
فقال أبي مؤكداً:
ـ القنصل… وكم قنصل في هذه الدنيا؟
ـ آه أفهم، قل أنت لأتذكر، لا بأس مادمت تريد تسديد دَيْنه. قل:
قال ليجعل والدي يتحدث عن عملية “القتل”، ورنّ على جرس من تحت مكتبه حتى إذا جاء أحد الجنود طلب كأسين من الشاي، وتابع:
ـ قل كل ما تعرف، وليقدرني الله على عمل الخير لإخراج إبنك من محنته!
إستغرب الحاج هذه اللغة الناعمة، لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً، فهو رجل بسيط كما تعلم، لكن ذهنه ظل مشدوداً لما يريد قوله فقط، فقال:
ـ أنا الذي يعرف؟ أنتم تدّعون المعرفة، وأنا أقول لكم إن كان ابني قد قتل القنصل إعدموه.
دخل الجندي بكأسي شاي ووضعهما على الطاولة، وقدم الضابط الشاي بنفسه لأبي، فأرجعها والدي من أمامه للخلف كمن يرجع بكفه فاحشة تتقرب منه. كان قد تذكر كلماتي، برفض التعاطي مع رجال المخابرات لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بأي شيء آخر، فظل متذكراً المبدأ لكنه نسي الأسباب والمبررات. وقال:
ـ عندي السكر… لا أشرب الشاي… ولا غيره.
قال جملته الأخيرة كي لا يعود الضابط لدعوته على مشروب آخر، وقال الضابط الحانق مفتعلاً الهدوء:
ـ كما أخبرتك ياحاج، عليك مساعدتنا باسترجاع دَينَنا، أرأيت مديوناً طليقاً دون أن يسدد دينه؟
قال والدي جازماً:
ـ طبعاً رأيت ، ألم تسرقوا بيت عفّا ولم ترجعوها بعد؟
ـ “بيت” مَنْ؟… عفّا؟ وما هذه ال”بيت عفّا”؟!
قال والدي معتقداً أن الضابط يستهزئ به:
ـ أنسيت بيت عفّا الآن؟ “بطلت” تعرفها؟ قريتي في الثمانية واربعين، أم نسيت هذه أيضاً؟
وضرب صدره بكفه ليؤكد أنها قريته، ووقف على قدميه وقال:
ـ هيا أرونيه كي أخبره أن لا ينسى بيت عفّا التي سرقتموها ولم ترجعوها بعد، وما دام الأمر يتعلق بالديون لنرى مَنْ لديه عند الآخر دَيناً، وكيف سيتم تسديده؟!
إستدعى الضابط الجندي غاضباً، صارخاً أن يوصلوه مباشرة للباب الخارجي، قائلاً:
ـ ألم تنسوا بعد كل هذه السنين؟ أخرجوا هذا المجنون برّه… بــــــرّه
أخرجوه، وهو يسأل:
ـ ننسى؟ أننسى ماذا؟ربما تقصد بيت عفّا؟ ماذا تقول أيها المجنون؟
أخرجوه حتى باب السجن الخارجي، وبقيت جاهلاً بالأمر ولا أعلم عنه شيئاً حتى خروجي من التحقيق.
ظلّ ينظر كامل في حقول السماء، إلى الغيمات المبعثرة على أطرافه كقطيع خراف متفلّت متبعثر، وقلت له لمّا رأيت ضجيج سكوته يسيطر في المكان:
ـ أتذكر خالد؟
ودون أن أنتظر إجابة، أكملت، حيث أن خالد صديق لكل أفراد العائلة:
ـ صديق عائلتكم، أخبرني ذات يوم أنه كلما رأى والدك كان يرى فيه رجل تلك اللوحة، لوحة سليمان منصور، جمل المحامل، الذي يحمل فيها القدس على ظهره.
لم ينظر نحوي لئلا أرى دمعتي عينيه المترقرقتين، فيخجل او يشعر بالحرج، لكنه قال:
ـ لعله كذلك… رحمه الله.
أكمل قائلاً:
ـ أنت ربما لا تعرف أبي… فوالدي إنسان قديم قديم… تخاله جاء من عمق الأرض حاملاً على ظهره عبق التاريخ، كأنه ترك لتوه جده كنعان. تراه حاملاً رأس الفلسطيني يوحنا المعمدان جاداً في البحث للثأر له، متسلحا بعكازة المسيح، سائقاً أمامه بضع غنمات من غنمات محمد.
وظل يتابع بعينيه خراف السماء.
رائعه من ابداعات الروائي محمد النجار جمالها في بساطة حوارها المتناسب مع الموقف فالحق مهما كان التعبير عنه بسيطا هو الاقوى
الى مزيد من التقدم والابداع