الراية الفلسطينيةالوطن العربيفن وثقافة

إنهم يقتلون الخيول – قصة قصيرة

الكاتب : محمد نجار

         أجلسني أفراد الشرطة والمحققون على باب غرفة التحقيق، لأكون قريباً منهم وقتما يحتاجون للإدلاء بشهادتي. يبدو أن هذا الرجل الأكتع خطير على الأمن العام، خطر ذئب جائع على قطيع غنم. يقول المأثور الشعبي “كل ذي عاهة جبار”، ما بالك وهذا “الجبار” حر طليق يجوب الشورع والطرقات دون رقابة.
من أمام الباب يمكن سماع نتفاً من التحقيق المتسرب من تحته ومن مساماته الخشبية، ويصير الأمر أوضح عندما يفتحون الباب لأسباب متعددة، دخول أو خروج، قهوة أو شاي، أو للإستعانة بأحد الضباط نتيجة لخطورة الموضوع، أو عند استدعاء شاهد ما. حينها أمكنني أن أسمع بكل وضوح، كيف يتدفق نهر الكلمات جُملاً بكاملها وفواصل وحروفاً ونقاطاً خارجة من باب الغرفة، متدافعة مع دخان السجائر المكبوت في تلك المساحة الضيقة، ليغطي الرواق الذي تسكن الغرفة على بابه.
لست أدري كيف كانت أذناي، حتى والباب مغلق، كالمغناطيس تلتقط الحروف، تجلبها، تُجمّعها، تلملمها من الهواء وتنقيها، كامرأة موهوبة تلتقط حبات الزوان والحجارة الصغيرة من بين حبيبات الأرز بسرعة فائفة، ثم تصهرها وتُشكلها كلمات وجملاً مترابطة داخل رأسي. أنا رجل لا يحب الفضول، بل يمقته، لكن يبدو أن للخوف قوانينه، له انعكاسات وسلوك وطقوس، الأمر الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك أبداً إلّا لماماً، في مناسبات متباعدة تكاد لا تُذكر. ما زلت أتذكر تفاصيلها رغم كل محاولاتي الفاشلة لنسيانها، متذكراً في كل لحظة كلمات المرحومة أمي، وهي تقول لي آسفة على الرعب الذي يتلبسني:
ـ يا حسرة يا بنيّ، أعلم أن الرجولة والشهامة والعزة والإباء لا تُورّث دائماً، عبثاً ذهبت كل محاولاتي والمرحوم والدك أن نحشوها في أوصالك، فهي ليست مثل حبيبات الأرز هذه داخل حبة من الكوسا.
مشيرة إلى ما كانت تحضره من طعام بين يديها. تكمل متابعة:
ـ من سوء حظك يا بني أنها تنمو وتكبر في معمعان المعارك، في الزمن الصعب، تتطلب الحكمة والوضوح والتحدي والإقدام، تماماً كما جذور الزيتون التي تخترق الصخور وتُفتتها.
تسكت قليلاً ثم تتابع:
ـ هناك لحظات تمتحنك بها الحياة، لحظات الحسم التي لا مجال فيها لتردد أو تسويف. خوفي يا بني من نهر الخوف الذي يندلق في عروقك في اللحظات الصعبة أن ينازع دمك على لونه، أن ينتصر عليه ويغيره، أن يحوّله الى ماء مُعكّر نجس، ويحولك إلى جبان رعديد. يمقتك بسببه الناس والمجتمع، حتى زوجتك التي تستقبلك بداخلها ظانة أنك أمين عليها، وتشكّل لها السند القوي وحائط الأمان.
تبدأ بنصيحتي متألمة:
ـ تماسك يا بني، فبين الخوف والجبن لحظة واحدة أرق من ورقة السيجارة وكم هائل من الدمار. تماسك يا بني، إنّ كل العالم لن يستطيع إصلاح لحظة جبن واحدة إنْ تفلتت منك وانكسرت، لأن أول خساراتك هي نفسك، وخسارة النفس لا يوازيها خسارات.
لا يمكنني أن أنسى كذلك توصيات المرحوم والدي منذ صغري، تنبيهاته لي بأن لا أثق مطلقاً بسلطة أو ملك أو رئيس رعديد أو أمير أو مثقف مرتزق أو عاهرة، لأن كلاً منهم عاهر بطريقته كما ظلّ يقول:
ـ العهر واحد لا ينقسم، حتى وإن اختلفت أشكاله وطرائقه، فالعاهرة تبيع جسدها فقط، وهم يبيعون بلادهم وأقلامهم ومصالح شعبهم ومبادءهم. لا محرّمات عندهم ماداموا باعوا أنفسهم، فلا غرابة أن يبيعوا أي شيء.
لوحدي أضفت إليهم لاحقاً الكتبة والمسحجين والمطبلين من لاعقي الصحون والأحذية، لكنني لم أبحْ بذلك لأحد وأبقيت الأمر سراً مع نفسي.
كي أحمي نفسي أطلقت العنان لحواسي مجتمعة، لكل قرون الإستشعار عندي، خافية وظاهرة، لتعرف كل ما يدور داخل غرفة التحقيق، فلا أحد ضامن في هذه البلاد ألّا أتحول من شاهد إلى متهم. لعنت اليوم واللحظة التي أخرجتني من باب منزلي في ذلك الصباح، التي لولاها لما وصلت أمام غرفة التحقيق في قسم الشرطة هذا بسبب ذلك الرجل الأكتع. لُمت نفسي كثيراً ولعنتها مراراً على شفقتي عليه، وحِنيّة قلبي المفرطة قبل التأكد أن هذه الشفقة وهذا الحنين لن يكونا في غير مكانهما.
في ذلك اليوم خرجت من باب منزلي صباحاً كعادتي في الفترة الأخيرة، بسبب دخولي عالم العاطلين من العمل منذ شهور عدة، لأتفرج على ذلك الرجل الطيب الهرم، الذي يأتي كل يوم ليطعم الحمام البري. ازداد إيماني وثقتي بالله الذي يرزق الدودة في باطن الأرض أن يرزقني. طالما كان الإيمان يُريحني ويزيد التفاؤل داخلي بأن أجد عملاً من جديد. حلمت واعياً أنني ربما وجدت عملي القادم عند هذا الرجل الطيب، مبتعداً عن غابة البطالة الكثيفة هذه، التي تمتد وتكبر وتنتشر مثل النار في الهشيم، حاصدة آلاف الأيدي الباحثة عن رغيف خبز يوماً بعد آخر. عدت أنظر لهذا العجوز المنقذ الذي يأتي للحمام بالخبز والحبوب من منزله في كل يوم. كلمة “منزله” ربما لا تناسب الواقع كثيراً، فيها الكثير من الغبن والإجحاف، لعلّ الكلمة الأصح هي قصره.
بغض النظر عن المعنى لهذه الكلمة وهذا التوصيف، فالرجل كان يأتي من بيتٍ كبير مؤلف من عدة طبقات، لا أعرف ماذا يحوي أي منها. أعرف أن البيت محاط من كل جوانبه ببساط أخضر وشجر مثمر من كل صنف، تلفه الرعاية والشمس والمياه والحنين. أي تقاعس من قبل العاملين فيه يواجه بالتوبيخ والتعزير والخصم من الراتب الشهري وحتى الفصل من العمل، لدرجة قال البعض أن أحداً من الذين عملوا في هذا القصر، لم يأخذ يوماً راتباً كاملاً أبداً. كنت أقول في نفسي “أن الله يعطي اللحمة لمن لا أسنان له”، فهؤلاء العاملون الحمقى لا يدركون ماذا يعني أن يكون لديك عمل. أن تكون ضامناً لرغيف خبزك لليوم التالي، ألّا تسمع بكاء أطفالك متضورين جوعاً وتعنيف زوجتك لأنك لم تجد عملاً، كأنك قادر على ذلك وترفض أو تتمنّع. هم الذين يتكاسلون ولا يقومون بعملهم كما يجب، وكذّبت صديقي الذي يعمل هناك، عند العجوز الطيب منذ شهرين ويزيد، عندما ادّعى أن الرجل العجوز يفتعل القصص ليخصم عليهم أجورهم!
يوجد في البيت حوض سباحة في المنطقة الخلفية، مظلات للحماية من الشمس، كي لا تؤذي أحفاد العجوز وأولاده. يقول بعض المبالغين أن الماء الذي تُسقى به الأشجار والبساط الأخضر يتعدى كثيراً ما يشربه المخيم القريب ويغتسل به. للقصر طريق معبد لعبور سيارات أولاده وزائريه من البوابة الحديدية الضخمة، قبل أن تختفي في مكان ما تحت القصر.
لا أعرف لماذا أطلت الثرثرة بعيداً عن لب الموضوع، فالأمر ببساطة شديدة، أن ذلك الرجل العجوز الطيب لا يستطيع تجنب فعل الخير. يخرج باكراً كل صباح ليطعم الحمام خارج قصره، باقياً حتى ساعات الظهيرة القاسية. يرتدي بنطالاً رياضياً طويلاً وبلوزة أو سترة من اللون نفسه، يفوح منهما رائحة النظافة والثراء، متوجهاً إلى ظل شجرة قريبة من الطريق العام، يجلس على كرسيه الذي يحمله أحد عمال القصر للمكان ويعود.
يبدأ العجوز بتقطيع الخبز ونثره على بعد خطوات من قدميه، والحمام يأتي حائماً تحت سقف السماء، سابحاً على أمواج الهواء، مقترباً من أرض الطريق. سرعان ما يشق الهواء بمنقاره ورأسه الى الأعلى ليعاود “الكر والفر” مرات ومرات قبل أن ينزل بحذر بعيداً عن الرجل في أول الأمر، ليلتقط ما تيسر من غذاء. يأخذ بالاقتراب قليلاً قليلاً، سرعان ما يتخلى عن حذره رويداً رويداً، حين يرى أنّ الرجل لا يضمر له أي سوء. الحمام يقترب أكثر وأكثر، ويوماً بعد آخر صار يتخلّى عن حذره، حتى تحولت رؤيته للرجل العجوز إلى عادة. أصبح يتجمع أكثر في لاحق الأيام، يلتقط الفتات المتساقط تحت أقدام العجوز، ومرات ينقر الخبز من بين يديه نفسها. تتفتح شفتا العجوز مثل زهرة مظهرة أسناناً اصطناعية بيضاء، مطلقاً ابتسامة طفولية بريئة، تزيد في طمأنة أسراب الحمام التي تتكاثر بين يديه، ممزقة حذرها قاذفة به، إلى الصخر، من أعالى السماء، وتجعل من يرى المشهد مثلي يكنّ للعجوز كل المودة والحب والاحترام، ويدعو له في كل صلاة وخارج الصلوات أيضاً.
جاء نفس ذاك الرجل الأكتع كما في كل يوم، خارجاً من مخيم قريب، حيث يمكنه أن يغتسل أحياناً وينام على حصائر المسجد أو مقاعد الكنيسة المتجاورين. جاء هذا المشرد بملابسه الرثة، بحذائه البالي، بشعره الأسود الأجعد الكثيف الطويل الذي يغطي وجهه كاملاً، حتى لا تستطيع أن ترى منه شيئاً. كلّما أمره المحقق أثناء التحقيق معه أن يرفع شعره ليستطيع رؤية وجهه، يرفعه من جانب لتنهال بقية الخصل من جوانب مختلفة لتغطي الجزء الذي تم كشفه. أقول إنه جاء كما في كل يوم، وكنت أنا مثل كل يوم أيضاً، أفترش الأرض في ظلال شجرة وحيدة مقابل الرجل العجوز. أتمتع برؤية الحمام المتطاير بين يدي الرجل ومن حواليه، وهي تنقر خبزها، ثم تهدل متغازلة متمايلة متهادية، تسير الهوينى عارضة رويشاتها البيضاء والسوداء والبنية والرمادية والزرقاء، كأنها في عرض أزياء طبيعي فاتن. كل حمامة تعرض أكثر من لونين من الريش الجميل، بعضها تفرد أجنحتها لتساعدها أكثر في الحركة، بعض الذكور تغازل إناثها، يداعبوهن بمناقيرهم والأناثي تدنو إليهم وتبتعد. يتبادلون تنظيف رويشات بعضهم بعضاً، ثم تبتعد الإناث لتقترب من جديد.
ذكور أخرى تطعم إناثها بمناقيرها، ربما لتسرق قبلة تظهر من خلالها حباً. تطير الإناث متدللة إلى مسافة قصيرة قريبة، تعود لتلتقط حبات الحبوب أو كسرات الخبز الصغيرة، قبل أن تعود الى عشوشها في سويعات الظهيرة أو قبل مداهمة الظلام، في أعالي الأشجار أو أسطح البيوت. تظل تسير برأسها المرفوع الشامخ، تتخيّل نفسها أكثر بكثير من مجرد سرب حمام. ترى في حمائميتها نسوراً جارحة قوية، غير مدركة أن النسور لا تستجدي غذاء، ولا تنتظر أحداً أن يلقي لها بقطعة لحم ما بالك بكسرة خبز. إن نسوريتها تلك من كونها ترفض أن تعتاش على فتات، من قدرتها على استحضار الطعام بقوة مخالبها ومناقيرها المعقوفة الحادة، من صبرها على الجوع، فهي “كالحرة التي تجوع ولا تأكل بثدييها”.
كنت أرقبها في مجيئها وذهابها، في أكلها، في حركة طيرانها، وهي تجلس بعد أن تشبع في ظلال الشجرة الآمن، متخليّة عن كامل حذرها إلا قليلاً. أفكر قائلاً لنفسي، حتى أسراب الحمام لها رونقها وجمالها عندما تشعر بالأمان، عندما تنام مطمئنة بين يدي إنسان عطوف مثل هذا العجوز. لو لم يكن هذا الرجل طيب القلب أبيضه، لأحس به الحمام وتفاداه، لابتعد عنه وجافاه. لو لم يشعر بحبه لما وثق به واقترب منه هذا الاقتراب، إنه يحس الحب والكره، فمن الصعب خديعة الحمام.
لكن الأكتع عكّر ابتسامتي وقتل فرحتي في لحظة واحدة، عندما نظر من بين خصلات شعره الأجعد الكثيف نظرات كره من عينيه السوداويتين الحاقدتين، ورأيته يتجه مباشرة الى تجمع أسراب الحمام بين يدي الرجل الطيب العجوز، ينحني ويلتقط قطعة خبز جافة كانت ملقاة على الأرض. الحمام الذي كان حتى تلك اللحظة يشعر بالطمأنينة والأمان، تطاير مرعوباً من هذا الكائن الذي عكّر عليه صفوه ومزّق طمأنينته ورماها في غير اتجاه، تاركاً غذاءه والعجوز وظلال الشجرة وبعض رويشاته تتطاير في المكان. راكباً من الخوف أمواج الهواء، محاولاً التسلّق إلى أعالي السطوح والشجر وأعمدة الكهرباء ورؤوس تلال الهواء الساخن. العجوز الذي فجعه ما رأى لسرب الحمام، كاد يبكي من الألم، وسرعان ما فتح هاتفه الخلوي معرّفاً عن نفسه طالباً قدوم الشرطة لاعتقال الرجل الأكتع، الرجل الذي لا قلب له، الذي سرق طمأنينة الحمام وطعامه وشتّت شمله.
قال له الضابط المحقق:
ـ ما هذا الشكل؟ لماذا هذا الشعر الطويل؟ كي لا يتعرف عليك الناس؟
أجاب بصلف ناتج عن ثقة أو وقاحة:
ـ لماذا أتخفّى؟ هل أنا مطلوب يا سيدي؟
قال الضابط غير متجاهل لسؤاله مجيبا:
ـ لا أستطيع الجزم بذلك، أنت لا تملك بطاقة لتثبت بها هويتك. لكن كوننا ديمقراطيين ولا نتهم الناس جزافاً، أستطيع القول إنك ربما لست مطلوباً، لكنك سارق. أنت لصٌ… إعترف لتختصر الوقت عليك وعلينا.
ـ أنا لست لصاً، أنا مجرد مواطن جاع وتشرد في وطنه مثل الآلاف يا سيدي، لوكنت سارقاً لما قطعوا يدي.
ضحك الضباط عندما سمعوا كلماته، اقترب من أذن أحدهم وأضاف:
ـ في بلادنا يقطعون الأيدي النظيفة يا سيدي، الأيدي العفيفة التي لم تمتد يوماً الى أملاك الغير، ولا إلى حقوق الناس.
قطع الضابط ضحكته، نظروا بدلالات لوجوه بعضهم البعض، ثم قال موجهاً كلماته إلى زملائه قبل أن يوجه سؤاله الى الرجل الأكتع، الذي لم نعرف له اسماً بعد:
ـ هذا رجل مجنون أم ماذا؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ من الذي قطع يدك؟
أشار الأكتع بإصبعه إلى الأعلى، فسأل الضابط:
ـ الله؟!!! الله من قطع يدك؟!
ـ لا يا سيدي، معاذ الله، الله لا يقطع أيدي رعاياه، بل من نصّبوا أنفسهم مكانه، إنهم أولئك الجالسون فوق، على الأكتاف ياسيدي.
فكّر الضابط أن يواصل أسئلته كي يتعرف على الرجل الذي أمامه، فربما كان أمام حالة خطرة متخفية وراء هذا الشعر الأشعث الكثيف، قال:
ـ كيف قُطعت يدك؟
أسند الأكتع ظهره على الكرسي، رفع رأسه عالياً كأنما أراد استحضار الزمن أمامه كي لا ينسى شيئاً. كانت عيناه الشيء الوحيد المتوهج اللامع داخل كتلة رأسه، قال:
ـ في ذلك الزمن سيدي، كان الوطن مختلفاً عمّا هو عليه هذه الأيام، له طعم آخر وشكل آخر ورونق آخر ومضمون مختلف. كان الناس يتسابقون لخدمته، الموت من أجله شرف لا يناله أي كان، إلّا مَنْ يستحقه فقط. الجريح يمشي في الشارع مزهواً بجرحه، معتدّاً به ليراه الناس، مهر العروس كان علامة جرح أو سنين سجن، لم يكن يسجنك أحد إلّا عدوك. كأن الناس سيدي كتلة واحدة، متعاونين متضامنين، قلب كل منهم على الآخر، الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد، إلا القليل منهم الذين ركبوا لاحقاً على الأكتاف.
أكمل بعد لحظات صمت:
ـ قبل أن تتهدم بمعاول غريبة، من الجذور، تلك الأخلاق وبشكل مدروس مقصود، كان الوطن زينة الناس وشرفها، كان الهمّ والألم والأمل، البيت والحب والجنة، عصارة كل جميل وحلو ولذيذ. رغم مرارة الأشياء كلها التي تحيط به، رغم الثمن الغالي الذي تدفعه من أجل هذا الحب، الذي قد يودي بك لدفع حياتك ثمناً. رغم ذلك كان الشباب يتسابق ليدافع عنه ويفديه، فارشاً حياته جسراً للآخرين مضحّياً بها، لتستمر المسيرة وتنمو شجرة الأخلاق التي قطعوها من جذورها لاحقاً.
نظر في عيني أحد الضباط وسأل:
ـ هل تتخيل يا سيدي، أن امرأة أو شيخاً أو ولداً كانوا يحتضنون أشجار الزيتون المقتلعة ويبكونها كما يبكون شهيداً ويفتحون لها بيوت عزاء؟ هل تتخيل أن حيازة بندقية صدئة أو مسدس كان يودي بك الى التهلكة وغياهب السجون؟ لا تتعجب سيدي، فبنادقنا الصدئة تلك تختلف عن بنادقكم هذه، بنادقنا تلك لم تعرف يوماً كيف يكون الإطلاق للخلف، لم تعرف الغدر ولا المناورة ولا الخيانة تحت شعار التكتيك أو أي من المسميات، كان لها اتجاه واحد فقط … قلب العدو.
ـ شكراً سيدي لم أعد أدخن، الظروف أجبرتني على تركه، من لا يجد خبز يومه لا يجب أن يدخن أيضاً. حاولت العمل مراراً لكني ما لقيت إلا فشلاً، حاولت أن أعمل حمالاً وعتالاً أو في مقهى، أن أبيع جرائد لكن دون فائدة. مَنْ سيُشغّل رجلاً أكتعاً مثلي؟ حاولت العمل مع الحكومة، طالبوني بنقل أخبار المخيم، قلت ها هو المخيم أمامكم، ينخره الجوع والعطش، يعمل به الأطفال تاركين المدارس ليعيلوا أسرهم، متحولين إلى جهلة يطاردون رغيفاً. أخبرتهم بجوع أسر الشهداء والجرحى العاطلين مثلي عن العمل، قالوا إنهم يعرفون كل ذلك، وهذا كله لا يعنيهم. إنهم يريدون أخبار الرجال، رجال الليل على وجه التحديد! كوني أنام بعد العَشاء مباشرة لم أستطع أن أكون ذا فائدة لهم يا سيدي.
سكت قليلاً قبل أن يمضي في حديثه:
ـ نسيت أن أخبرك أنني لم أتسول يوماً حتى من أجل الخبز، لم أمد يدي المتبقية لأحد. أأمد اليد التي حملت تلك البندقية لتتسول قطعة خبز أو سيجارة؟! ربما لو كان لدي فائض من قروش لدخنت من جديد، لكن لا، لا يا سيدي، لن أدخن من جديد، ربما اشتريت بها خبزاً لأناس مثلي يعجّ بهم المخيم، كي أكفيهم شر الحاجة والعوز يا سيدي.
أخذ يتحدث كأنه يلقي قصيدة حفظها عن ظهر قلب:
ـ تَحَمّلني قليلاً، في تلك الأيام حملت بندقيتي مع بضع رفاق درب، كنا جاهزين للقتال دائماً، نتنقّل ببنادقنا من مكان إلى مكان، حيثما هناك حاجة لنا تجدنا. لسنا وحدنا، مثلنا “مثايل” سيدي. كنا قد قررنا أن نحرر المسجد والكنيسة المتجاورين في مخيمنا حيث أنام في هذه الأيام، وكذلك شجرات الزيتون المحيطة بهما. كان الجند قد اغتصبوها، اعتلوا المسجد والكنيسة وحولوهما لمكان لاصطياد الناس وقنصهم. كانوا يدوسون المسجد والكنيسة والأرض وأشجار الزيتون بأحذيتهم. أنت تعرف سيدي أن بيوت الله والأرض وأشجار الزيتون مقدسة، كما الإنسان تماماً، لا يجدر بنا تركها تُداس بأحذية الأعداء، مهما كانت قدرتهم وتضخُم جبروتهم. ذهبنا واشتبكنا وحررنا المقدسات كلها في المخيم، واستقدموا قواهم وبنادقهم وآلياتهم، وهاجمونا من جديد، وقاتلنا بدورنا حتى لم يبق لدينا ذخيرة نكمل حربنا معهم. كنا نسمع أصواتاً تأتي من بعيد بعيد، من داخل الحدود وخارجها، وكلها من الراكبين على ظهور الناس وفوق أكتافهم سيدي…
وأشار باصبع يده الى فوق من جديد، وقال:
ـ كانوا يصرخون بنا: “العين لا تجابه المخرز”… يكفي ما قمتم به… “بوس الكلب من تمه حتى تاخذ غرضك منه”… “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”… “يكفيكم مغامرات غير محسوبة”… “ستدمرون كل جدران السلام التي بنيناها”… “انتظروا جيوش العرب”…  “التزموا بأوامر الحاكم” وافقوا على “هدنة” لنستطيع مساعدتكم… يكفي أوقفوا إطلاق النار.
كلما كنّا في قمة انتصارنا، كانت الأصوات نفسها تطالبنا بالتوقف والهدنة. تساءلنا مرّات مع أنفسنا، أي هدنة تلك التي يريدون؟ وعلمنا دون عناء كبير، أنهم يريدون دعم الجند الذين كانوا أمامنا يتقهقرون. لماذا لم يطلبوا هدنة ولو مرة واحدة عندما كان رفاقنا بحاجة لها؟ هل هذه مجرد صدفة؟ نحن لم نكن بحاجة الى الهدنة ولا لكل هذا النعيق سيدي. كنا نأمل أن يمدوننا ب”كمشة رصاص” بدل هذا العويل، لكن “لا حياة لمن تنادي”، لم يكن أحد يستمع لمطالبنا ولا احتياجاتنا، ولم نستمع نحن أيضاً لنعيقهم.
كانت معركة صعبة ياسيدي، كانوا أضعافنا عدداً وعدة، فاستشهد رفاقي كلهم، وأصبت أنا سيدي، رصاصة في خاصرتي، ضلت طريقها فخرجت من الجانب الآخر إلى مكان لا أعرفه، وثلاث رصاصات في يدي، يدي تلك التي انتزعوها وقطعوها في لحظات ضعفي.
زحفت لأخرج من المكان الذي كنت فيه محاصراً، زحفت كما لو أنني لم أكن مصاباً، فالحياة جميلة ونحبها حتى عندما نضحي بها، ربما نضحي بها لشدة حبنا لها يا سيدي. زحفت وزحفت وزحفت، ونوافير الدم تتسابق لتعانق جذور الزيتون، كان دمي قد اختلط بدماء رفاقي الشهداء، لدرجة أنني لم أعد قادراً على تمييزه، نفس اللون ونفس الرائحة ونفس الطريق ونفس المجرى. ظنّي أنه وصل لأساسات الكنيسة والمسجد وشجر الزيتون ليقوي صمودهم، وربما ليشد من أزرهم، ليطمئنهم واعداً بدماء جديدة قادمة.
فجأة… أخذ يجف ينبوع الدم في جسدي، فسحْبُ المياه من البئر مهما كان عميقاً يؤدي إلى جفافه كما تعلم، ما بالك بجسد ضعيف مثل جسدي هذا؟ ولم يمر طويل وقت حتى غبت عن الوعي. ليس بسبب الألم سيدي، بل ربما بسبب فقداني لكمية كبيرة من الدم، كما قال أحد الأطباء بعد ذلك، وبصراحة لا أعلم كيف سارت الأمور بالضبط.
علمت لاحقاً أنهم أخذوني من تحت شجرة زيتون الى الكنيسة أولاً، أخفوني هناك مستعينين بطبيب شاب ليوقف نزيف دمي، ثم إلى إحدى المستشفيات بعد أن هدأ البحث والتفتيش. كنت أسمع كلاماً كما في أحلام اليقظة سيدي، كان مَنْ غامر وساعدني يستجدي الأطباء، وهم يهزّون أكتافهم. يريدون القول أنّ “ليس باليد حيلة”، فأحد الحكام أو الجنرالات التي تملأ صدره النياشين الكاذبة، تلك النياشين التي اكتسبها دون حروب ولا استحقاق سيدي، كان قد جاء لعلاج انتفاخ في خصيتيه في تلك الليلة وذات اللحظة. يبدو أن هذا بسبب سوء طالعي، فخصيتا أي حاكم أو جنرال أو مسؤول، كما تعلم، لا تضاهيها أرواح مَنْ هم مثلي من الناس، ما بالك بمجرد يد؟!
بين أفخاذ الحكام والرؤساء والملوك والأمراء، تُطبخ وتنضج وتترتب أصعب الأمور، تتفتح وتُحل أكثرها تعقيدا، لكن لا تنمو زهرة واحدة! ربما بسبب الزيوت والعطور والمنشطات الكيماوية سيدي! أنا لم أكن أعلم بالضبط كيف تسير الأمور، كيف تأخذ مساراتها؟ لكن بعد أن فكرت في الأمر أكثر، وكي أكون صادقاً وجاداً أيضاً، تساءلت:
ـ ماذا يساوي ذراع رجل فقير نكرة مثلي أمام خصيتي أي من الحكام؟ بل ماذا يساوي بضعة رجال من أمثالي أمام خصيتيه؟ أنا رجل واقعي وأعرف حجمي سيدي، وأعلم أنهم لو وضعوا خصيتي أصغر حاكم في كفة، ونصف الشعب من أمثالي في الكفة الأخرى، لرجحتا خصيتا الحاكم، “مجنون يتكلم وعاقل يستمع”، ما هذه المقارنة الفاشلة وغير المتوازنة يا سيدي؟!
نعم سيدي، تجمع كل الأطباء في غرفة الحاكم، ومن كان لديه الحظ سيدي، فقط من كان لديه الحظ استطاع أن يرى خصيتي الحاكم، يتحسسها أو يتلمسها. سعيد من استطاع أن يبدي إعجابه بهما، ليرضى عنه وعليه. الحكام تحب أن “تُرطَّل بيضاتها” سيدي، تفرح كالأطفال عندما نُعجب بأي شيء عندها ما بالك بخصياتها؟ أما بقية الأطباء الذين لم يكن لديهم ذلك الحظ، فرأوهما من بعيد فقط، وكما يقول المأثور الشعبي “اللي مالو حظ لا يتعب ولا يشقى”، لكنّ المأثور نفسه يؤكد قائلاً “الريحة ولا العدم”. لا أخفيك كم كان هؤلاء حزانى لعدم قدرتهم للوصول لتدليك خصيتي الحاكم. لا أستطيع الجزم سيدي، ففي أحلام يقظتي تلك تهيأ لي أن بعضهم كان ساجداً بين خصيتيه، كأنه أراد عبادتهما أو تقديم فروض الطاعة لهما، وربما تقديم الأضاحي على أبواب حصونهما سيدي.
أحد الأطباء همس للبقية المتحولقة حول خصيتي الحاكم، أنّ هناك حالة طارئة، وأن عليهم تحضير غرفة العمليات، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد سيدي، حيث صرخ به الحاكم قائلاً:
ـ كيف تجرؤ على التفكير بذلك؟ أتريدهم ترك خصيتي لمجرد وجود حالة طارئة؟! لقد هزلت، أتساوي بهما حالة طارئة من العامة؟ من الرعاع؟ حتى الله يقول “وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات”، أكافر أنت أم مرتد أم زنديق؟ أتساوي خصيتي بحياة شخص نَكِرة؟ ألا ترى أنه يشبه الإرهابيين؟ ألا يكفي أن مثل هؤلاء من يعطل الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة؟
حاول الطبيب الدفاع عن نفسه قائلاً:
ـ إنّ يد الرجل ستقطع يامولاي إن لم نسارع في استخراج الرصاص المتفجر من داخلها…
قال له المسؤول جازماً:
ـ للجحيم…. فلتقطع…
وقطعوها سيدي فداءً لخصيتي الحاكم.

طرقت الباب مستأذناً للذهاب للمرحاض في آخر الممر الطويل، أبعدتني الطريق فلم أعد أستمع لبقية قصته. أصدقك القول أنني لم أكن لأصدقه لمّا كان يرفع اصبعه متهماً الحكام، أو ساكني القصور كما قال أكثر من مرة. ها هو الرجل العجوز الذي يفني عمره ويقضي وقته لإسعاد وإطعام بضع حمامات ضعيفات يبحثن عن فتات خبز، أليس هو من ساكني القصور؟! كيف تريدني تصديق أقواله؟ لكن دعك من هذا وانظر ماذا سمعت عند رجوعي مرتاحاً من المرحاض أعزك الله، حيث كنت أمام غرفة التحقيق فاتحاً بابها مخبراً عن رجوعي، متحملاً كلمات الضابط الذي عبر عن إحتجاجه قائلاً:
ـ “جيت؟ الله لا يجيبك”… إرتزي بره.
“إرتزيت” كما أمر، لكني كنت قد رأيت وسمعت، رأيت كيف كانت عيناه تلمعان من تحت شعره الكثيف، حين كان الضابط الكبير ينظر إليه محاولاً تفسير كل كلماته وحركات جسده. من على الكرسي المقابل سمعت ماذا سأله ضابط كبير آخر:
ـ لماذا أخذوك جريحاً للكنيسة وليس للمسجد؟ أأنت مسلم أم مسيحي؟
سمعته بأذني عندما توتر كما لم يكن من قبل، وهاج وماج وقال للضابط:
ـ ما علاقتك أنت بذلك؟ هذا الأمر بيني وبين الله ولا دخل لأي كان به، الزموا حدودكم ولا تسألوا مالا يعنيكم، وإلّا لن أجيب على أسئلتكم.
لم يقل له حينها “يا سيدي”، فقال الضابط الأول مجدداً حازماً متشككاً:
ـ أجئت لتعمل علينا بطلاً أيها اللص المتشرد؟ لو كنت ذكياً مادمت قد قررت السرقة، ما كان عليك إلّا أن “تسرق جملاً”؟ لكن رائحة غبائك تزكم أنوفنا.
انهال بكفه فوق وجه الرجل “الأكتع”، فتح الباب النادل في تلك اللحظة بالذات، ليدخل بكؤوس الشاي لطاقم التحقيق، فرأيت كيف تلقّف الأكتع بيده المتبقية يد الضابط ممسكاً بها مثل ملزمة. قال:
ـ لو فعلتها ثانية سأكسرها لك، أفهمت؟
ظلّ قابضاً على يد الضابط وقال دون أن يترك يده:
ـ لم آتِ لأعمل بطلاً على أحد، مثلي لا يفتعل شيئاً ليس به، لأني في الأصل بطل فعلاً، لو كنت لصاً و”سرقت جملاً” كما تقول، لربما كنت في مكانك الآن… سيدي.
كانت كلمة سيدي هذه المرة، أكثر استهزاءً من أي مرة أخرى، ثم أفلت ذراعه، أكمل الضابط بالعاً الإهانة:
ـ لقد ألقينا القبض عليك متلبساً، كسرة الخبز ما تزال في جيبك أليس كذلك؟
ـ بلى، لكنني لم أسرقها، أنا وجدتها على الأرض، قطعة ناشفة جافة ملقاة في وسط الشارع.
ـ لكنها طعام الحمام، نعم الحمام، رمز السلام والمحبة والتعايش، لكن مثلك ممن تعود أن يعطي قيمة للرصاص، لا يمكن أن يفهم ماذا يعني ذلك. إنّ الرجل العجوز الطيب ألقاها للحمام وليس لك أنت، وأنت تجرأت على الحمام فأرعبته وأخذت أكله.
قال الضابط مؤنباً “الأكتع”، الذي دس يده في جيبه وأخرج كسرة الخبز:
ـ أيمكن للحمام أن يأكل مثل قطعة الخبز هذه؟
كانت القطعة جافّة بحجم نصف الكف، الأمر الذي جعل الضابط يكمل التحقيق دون تعليق مهم:
ـ يمكن أو لا يمكن، أنت سرقت الخبز وأرعبت الحمام وعقابك السجن… لكن قل لي من أين أنت؟ فأنت لا تملك حتى اثبات شخصية.
ـ من المخيم سيدي…
ـ أي مخيم؟ المخيم الصيفي؟
قال الضابط مستهزئاً، حين رد “الأكتع” مجيباً:
ـ لا يا سيدي، مخيمنا شيء آخر يختلف عمّا في ذهنك، مخيمنا بدأ بالخيمة والطين والبرد والأمطار. ثم تحول الى طوب وصفيح وبرد ومجاري وأزقة ضيقة وأشباه طرقات، إلى وكالة للغوث والتدجين ومحاولات تمرير الأمر الواقع. بيوت صغيرة سيدي يسكنها عدد كبير من الناس، كما جاء في مناهجكم الجديدة سيدي، المخيم “تجمع بشري كبير” بعد أن أسقطتم عنه معهم، جميع ميزاته وأبقيتموه عارياً… سيدي
أشار بإصبعه الى فوق مرة جديدة… وأكمل:
ـ ما دمت ترى أن السجن مكاني المناسب، إذن فليكن السجن، أتعتقد أن “مَنْ تحت المزراب يخشى من المطر”؟! رحمك الله ياطرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة        على المرء من وقع الحسام المهند
قال الضابط الأول متفاجئاً بالرجل الأكتع، كأنه لم ينتظر أن يحوي رأسه أكثر من أطياف جهل وغباء:
ـ ماذا قلت؟ أعد…
ـ ليس مهماً سيدي، ليس مهما.
صار الضابط يشعر أن من أمامه ليس رجلاً معتوهاً كما يبدو، فحاول أن يسأل ليتعرف عليه أكثر، قال:
ـ لماذا لم يساعدك من أعطاك البندقية إذن؟
نظر في أعماق عيني الضابط، وقال كأنه ينتزع سكيناً غرسه الضابط بسؤاله في قلبه:
ـ لأنهم يقتلون الخيول سيدي.
سكت طويلاً قبل أن يكمل شارحاً:
ـ يقتلونها بكل أشكالها وأنواعها وحجومها وجنسها، فالحصان إن ترافق مع المهرة يخلقان الزلازل ويفجران البراكين. لذا يقتلونها وهي ماتزال تسير، وهي جامحة شامخة، يقتلونها وهي ما تزال تعدو فرادى وجماعات. الخيول تظل تحن الى أرض المعركة، وإن لم يصحبها أحد تعود وحيدة إلى هناك، تظل تصهل وتعدو وتحفر الأرض بحافرها، وإنْ منعْتها تغضب وتصهل وتقطع الحبال وتعدو في البراري والسهول. لذا توجب قتلها، مطاردة مُهرُها قبل أن تشبّ وتكبر وتتعلم العدو والصهيل، فهي تذكّرهم بواجباتهم التي أغمضوا عنها عيونهم.
سكت هنيهة وأكمل أسئلة استنكارية لم ينتظر عليها أي جواب:
ـ أما زلت تسأل لماذا سيدي؟ ألم تسمع ب”الأم التي تقتل أبناءها”؟! أُدرك أنهم قد غيروا الزمن وقلبوا المفاهيم، وأنهم قتلوا الخيول الأصيلة وروّضوا بعضها محولينها بإرادتها إلى بغال. نقلونا من زمن الخيول الأصيلة الى زمن البغال والحمير. في مثل هذه الأزمان يصير قتل الخيول في وضح النهار واجباً. رؤية الخيل تصهل وتعدو وتصول وتجول مذكرة بزمن الفروسية والفرسان اجترار للماضي، وهذا بحد ذاته جريمة، لكن أتعتقد أن هذا الزمن سيستمر طويلاً سيدي؟!.
كان الباب مغلقاً في تلك اللحظات، وسرعان ما فُتح ليأخذ الضابط عناويننا وأسماءنا للشهادة على سارق طعام الحمام ومرعبه. في تلك اللحظة رأيت كيف عجز الضابط عن تقييد يده الوحيدة، فاستعاض عن ذلك بتقييد قدميه، ولشدة خطورته قيّدوا يده الوحيدة بالقدمين أيضاً. قال الضابط وهو يسحبه إلى خارج الغرفة لأحد المجندين:
ـ إياك أن يهرب منك…إنه رجل خطير.
عدت الى بيتي ذلك المساء، بقيت أفكر في ذلك الرجل، رث الثياب فقيرها، أكتع اليد حاد البصر كصقر بري لن يتروض أبداً. طار من عيني النوم معظم مساحة الليل كله وأنا أقلب كلماته داخل حجرات رأسي.
لأن “الطبع غلب التطبع”، عدت الى طبعي للخروج في صباح اليوم التالي، للاستلقاء تحت تلك الشجرة لأراقب الرجل الصالح وهو يطعم الحمام. خرج من قصره كعادته في معظم الأيام، حاملاً أكل الحمام في كيس بلاستيكي. كنت أراقبه كيف ينثره لها، والحمائم تأتي بأسرابها بين يديّ الرجل العجوز وبين أقدامه. عاد الحمام الى مغادرة حذره، واثقاً بالرجل البشوش الطيب آكلاً من بين يديه.
منذ خرج العجوز من قصره، كان أكثر بشاشة وحيوية وابتسام. لم ينتظر ليصل إلى مكانه تحت الشجرة، بل صار يلقي الحبوب منذ خروجه من بوابة قصره العملاقة، في الشارع والطريق وضفتيه، استغربت لمّا رأيته يطعمها بحبوب لا أعرفها، لكني حسدته على كرمه، كيف يشتري للحمام الحبوب إن نقص الخبز من بيته! وكدت أذهب لباب بيته لأهنئه وأقبّله.
لم يمر طويل وقت، حتى بدأ الحمام يترنح في الطريق، ثم يقع على أحد جنبيه أو ظهره، وبعض اللواتي حاولن الطيران منها، خدعتهن أجنحتهن اللواتي أصابهن الوهن والخدر، ووقعن على سطح بيت العجوز أو في حديقته الخضراء. أخذ العجوز يصرخ بالعاملين:
ـ احذروا أن يتسخ القصر، إذبحوهن في الخارج قبل أن يمتن. إياكم أن يتشوه وجه الحديقة الأخضر ويتسخ، كي لا أخصم ما تبقى من راتبكم هذا الشهر.
استلّ سكينه وأخذ يذبح بدوره الحمام الغائب عن الوعي، يلقيه أرضاً ليخفي التراب دماءه النازفة، ويتمتم مع نفسه:
ـ ما كان يجب أن تطعمهن هذا الكم من المواد المخدرة، نصف الكمية كانت تكفي…كيف استطعت أن تنفق كل هذا المال؟!
أحضر أكثر من عامل من قصره، ابتدأوا يجمعون جثث الحمام المذبوح الهامد داخل أكياس بلاستيكية ويدخلونها داخل القصر.
كان الرجل العجوز يأكل الحمام متمتعاً بعظمه الطري على أسنانه الإصطناعية الحادة، يأكل حتى ما فوق الشبع، فالعجوز يحب لحم الحمام كثيراً. يسند ظهره على كرسيه على طاولة السفرة، يأخذ نفساً عميقاً، ثم ينقضّ على الحمام المحمّر الذي أمامه. يتابع الأكل كأنه ابتدأ لتوه، كما وصف لي صديقي العامل داخل القصر عنده. أخذ يلعق بلسانه ما علق فوق أصابعه، كأنه يستهزئ بعقل الحمام الذي صدّق خديعته، دون أن يفقد ابتسامته لحظة واحدة طيلة فترة غذائه.
قام من على طاولته، وقال:
ـ يقول المأثور الشعبي “تغدّى وتمدّى وتعشّى وتمشّى”، لا أريد أن أسمع صوتاً الآن، جاء وقت قيلولتي بعد هذه الوجبة الدسمة. يا أبا محمد… حضِّر الخبز لأطعم في صباح الغد هذا الحمام المسكين الذي لا يجد من يطعمه… “إفعل الخير وارمه البحر” يارجل، لا تنسَ أبداً هذا الأمر.
استلقى على كنبته الفارهة بعد أن غسل يديه بالماء دون الصابون، مسحهما بفوطته الصغيرة، ثم صار كعادته يشم رائحة لحم الحمام الطري العالقة بيديه وبين أصابعه، وبقع الدم ما تزال متشبثة بساعديه وفوق قميصه.
عدت إلى بيتي مغموماً ذلك النهار، وقد اتخذت قرارين مهمين، أولهما ألّا أتقدم لوظيفة في قصر العجوز، وألّا أشهد ضد الرجل الأكتع مهما هددوا أو حاولوا إجباري. لسبب ما تذكرت المرحومة أمي، فقررت أن أزور قبرها وأقرأ الفاتحة على روحها الطاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى