الراية الفلسطينيةالوطن العربيفن وثقافة

آه لو كان صديقي – قصة قصيرة

الكاتب : محمد نجار

كنا نقترب مسرعين من الأول من أيار كما نحن الآن في هذه الأيام، عندما قال لي عماد حينها:
ـ عيد العمال صار عيدنا جميعاً وليس عيدهم وحدهم.
من باب المجاملة البحتة، أظهرت له شيئاً من بياض أسناني، بدلاً من ابتسامة متعبة أو إن شئتَ حزينة، دون أي كلام. كنا في غرفة المعلمين، جمعتنا ساعة فراغ بانتظار موعد الحصة الأخيرة لكلينا، قبل العودة للبيت حاملين خيبتنا وتعب النهار. ندخن ونرتشف بقايا القهوة كلٌ من فنجان أمامه. وأكمل غير عابئ بابتسامتي، وربما بي أيضاً:
ـ صرنا كلنا بنفس الحال، وربما بعض العمال أصبح دخلهم أكثر من دخلنا نحن معشر المعلمين.
ابتسم هو هذه المرة وقال مكملاً:
ـ اللهم لا حسد، فهم يستحقون حتى لوتضاعف دخلهم.
قلت محاولاً التعليق على أقواله من باب المجاملة كما قلت لك:
ـ كلّنا في الهم واحد، وليس بالإمكان أفضل مما كان.
قال هو قاطعاً، واثقاً من صدق كلماته:
ـ بل بالإمكان، ها أنت رأيت بأم عينك عندما تضامنّا كمعلمين كيف حققنا مطالبنا، ولو تراجعنا لنهشتنا أنياب كلاب السلطة واعتقلت قادتنا  وطردت ورمّجت، وشتتتنا ومطالبنا. ها أنت ترى بعينك أنهم يُحيكون لنا قانون ضمان اجتماعي مُجحف، ليلتفوا به على مصالح الناس ويصادروا حقوقهم. كل من يعارض يتهمونه بعدم الفهم أو بتهديد الأمن القومي، كما وصف إضرابنا أحد أكثر وجوههم فئوية وتفاهة، وأكثرهم استفادة من الوضع السائد طوال حياته.
كان عماد لا يحب السلطة ولا حكوماتها، وربما هذا أحد أسباب عدم استلطافي له، وللحق، فأنا لا أعرف بالضبط سبباً لعدم استلطافي هذا، فهو لم يُسئ لي أو لغيري يوماٌ. أعترف أمامك أنه كان حسن الأخلاق دمثها، متعاون ونبيه وفطن وسريع البديهة، لكني كنت دائم التوجس من كلماته، وكل ظني أن ما يقوله ليس سوى لإغاظتي كوني من طيف سياسي آخر.
كنت أقدم منه في سلك التدريس، وهو لم يكن قد أتمّ أكثر من عامين على تعيينه كمدرس، لكنه كان يتعاطى مع الجميع بما فيهم أنا كأنه يعرفنا منذ سنوات وسنوات. يضحك ويمزح ويحضر للجميع القهوة في أحيانٍ كثيرة في “تيرموس” كبير من بيته مُعللاً “أنه يحب أن يصنع القهوة بنفسه”.
كنا نعرف أنه يكذب في هذه القضية بالذات، فمعاشه الشهري ، مثلنا جميعاً، لا يحتمل الكثير من “تيرموسات” القهوة لو لم نصنعها في بيتنا. كان الجميع “يغزلون بمغزله” بما فيهم أنا نفسي. نقول:
ـ صدقت، فقهوة البيت لا مثيل لها.
سرعان ما نعزي أنفسنا ونُعزي كلماته متابعين:
ـ تماماً مثل أكل البيت أطيب كثيراً من أكل المطاعم.
أصدقك القول أن ثلثينا ربما لم يُغامر مرة واحدة في حياته ويدخل مطعماً، لكن الجميع يهزون رؤوسهم عداه هو، فهو يعلم أن الجميع يكذب مثلما يكذب هو أيضاً، لذلك كنت أراه يتحين الفرصة كي يبتعد عن الموضوع نحو موضوع آخر.
ها هو من جديد يعيد على مسامعي قبل أيام نفس الكلمات، رغم شعوره بأنني لا أستلطفه وأتجنب لقاءاته. لسبب أجهله قررت وقتها أن أعانده أو أتحداه رغم أنني في أعماقي أرى صحة في الكثير مما كان يقول. كانت حينها قد ظهرت بعض نتائج الإنتخابات الطلابية، وقد علّق حينها بفخر كون من يؤيدهم حصلوا على مقاعد لا بأس بها، لكن ليس كما كان يتمنى ويريد.
قال:
ـ “ما في فايدة”، يظل المال العامل الحاسم في أي انتخابات.
قلت وقد استفزتني جملته:
ـ لقد حصلتم على ما يساوي ثلاثون بالمائة في اكثر من مجلس، كم دفعتم من أجل ذلك؟
بدلاً من أن يُستفز ويغضب، ضحك حتى دمعت عيناه وقال:
ـ لا خيل عندك تهديها ولا مال     فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
ياعزيزي فاقد الشيء لا يعطيه، وجماعتي حرمتهم السلطة من حقوقهم المالية كما تعلم، وحديثي مخصص فقط لمن يملك المال.
أكمل هامساً في وجهي بعد أن اقترب منه وقال:
ـ لا تغضب، هكذا هو الحال دائماً وأبداً، أصحاب المال هم أصحاب القرار. المتفردون في القرار لا يريدون أن يكون لهم شريك آخر “في الكعكة”.
رفع رأسه من أمام وجهي وقال:
ـ لا تستغرب، لقد جعلوا من القضية كعكة الكل ينهشها ولا يكتفي.
سكتنا. نظر كلانا في كتاب أمامه، ولم تمر سوى لحظات حتى أزاح الكتاب من أمام عينيه وأبعده ونظر نحوي، بينما كنت أنظر إليه بطرف عيني كي لا يراني وينهال عليّ بكلماته من جديد. قال دون أن ينظر نحوي، مطلقاً عينيه بعيداً خارج جدران الغرفة من خلال زجاج النافذة:
ـ يقول الناس أن الزعيم أقال محافظ مدينة كبيرة لأنه غادر احتفالاً محتجاً على وجود ممثلين عن المستوطنين. أسمعت شيئاً من ذلك؟
رغم أنني سمعت وتناقشت مع بعض أفراد الطيف الذي أنتمي إليه  في الأمر، إلا أنني قلت محاولاً الدفاع بطريقة غير مباشرة:
ـ لا أعتقد ذلك، إشاعات كثيرة ودعايات تستهدف الزعيم، لكن “ياجبل ما يهزك ريح”.
قلت جملتي الأخيرة من باب العناد، فهو ليس جبلاً ولا ما يحزنون، ولو كان سابقاً كذلك فهو لم يعد بعد كل هذه التنازلات، لكن يبدو أنني ما زلت أكره الآخر أكثر مما ينبغي.
لم ينظر نحوي أبداً، وكأنه لم يسمعني، لكنه أعاد ما قلت بتأنٍ:
ـ آه… “يا جبل ما يهزك ريح”.
إستفزني حديثه إلى حد كبير، ولو لم أكن في المدرسة لربما أمسكت عنقه وضغطته حتى يسكت عن الكلام تماماً، لا لشيء إلا لكونه يضع اصبعه على الجرح ويضغط ليقتلني من شدة الألم. ربما لأنني لا أريد أن يظل الناس تردد أمامي هذه المهازل، وربما لأنني لا أريد أن أعرف المزيد وأرى يوماً بعد آخر أن سنوات سجني، والدماء التي سالت على طريق النضال الطويل، تنهار وتُداس ويُبصق عليها أمام ناظري. وربما كوني لا أريد أن أحس في كل لحظة أنه على حق، وربما لكل ذلك مجتمعاً.
ظل ينظر الى اللاشيء، وحمل كتابه وقام على غير عادته دون وداع ولا استئذان، ومشى في ساحة المدرسة حتى قُرع الجرس. أنهيت حصتي وغادرت، وتأخر هو دقائق مع طلابه، ولم أره ، بل أسرعت للخروج من باب المدرسة كي لا أراه. مشيت ومشيت حتى بعدت المدرسة أكثر وأكثر عن قرقعة حذائي.
فتحت المذياع كعادتي عند وصولي للبيت، وكان المذياع يردد أنه تم العثور على الشباب الذين اختفوا منذ عشرة أيام في زنازين السلطة، حيث اعتقلتهم لمحاولتهم القيام بعملية فدائية. كي يكتمل المشهد، جاء الخبر التالي: السلطة الفلسطينية أرجعت للاحتلال خمسة من مستوطنيه كانوا قد تسللوا الى داخل المدينة!
وجدته حينها قد قفز أمامي، يقتحم عليّ حياتي وبيتي دون مقدمات، يقف في طيّات ذهني وينظر مباشرة في عينيّ الميتتين ويقول:
ـ ألم يكن من الأجدر أن يُبدِّل المستوطنين بأسرانا؟ لماذا يُعيدهم الزعيم ما داموا جاؤونا بأرجلهم ليقتلوا ويحرقوا ويخربوا؟ ألم يكن من الأجدر والأوفى لشهدائنا وأسرانا أن يستخدمهم كورقة ضغط ما دام قد سلم كل أوراقه دون فائدة؟
في سري وبعيداً عن عينيه بصقت على نفسي لأنني ما زلت أمسح جوخاً وأدافع عن هؤلاء، لكني بقيت على عنادي، لم أُردْ أن يشمت بي ويقول يوماً: أرأيت؟ أنا من كان على صواب، وأخذت أبتكر المبررات لأقولها له عند لقائنا في صباح اليوم التالي.
حضرت مع ساعات الصباح الأولى كعادتي الى المدرسة، أوقفونا الجنود مثل كل صباح على الحاجز، لا يسمحون إلّا لآحاد منا بالعبور بين وقت طويل وآخر، غير عابئين بأعمالنا أو بوقتنا أو بإنسانيتنا. كان هو أيضا قد وصل قبل وصولي، فطريقنا هو نفسه نحو المدرسة. نظر ورآني أقف خلفه بعيداً بصفوف عدة، وعلى غير عادته لم يرشقني بتحية الصباح. حتى عندما رأيته وحاولت الابتسام أزاح وجهه عني بعيداً، الأمر الذي زاد حقدي عليه، وفكرت بهذا المغرور التافه الذي يفتعل أنه لم يرني. كان هو هادئا مثل جدول، يحمل شنطة يده التي تحوي كتبه التي يُعلّم منها طلابه، وينتظر دوره في صفه حتى لم يعد أحد أمامه. أشار له الجندي ليأتي فتقدّم نحوه، يينما كنت أنظر إليه بحسدٍ لأنه أنهى هذا العذاب قبلي. قبل أن أرفع بصري عنه، حين كان على بعد أقل من خطوة من الجندي، أخرج سكيناً من خلف ظهره، وانقض على الجندي الذي كان يُذلنا كل صباح. أخذ يطعنه بسكينه، تعلو يده إلى ما فوق رأسه وتنهال على الجندي القاتل، تعلو وتنزل وتعلو وتنزل. انهمر الرصاص على جسده رصاصة تلو أخرى تلو أخرى، وسكينه ما زال يعلو ويهبط حتى تكوَّم الجندي مدرجاً بدمه أمامه. كان الرصاص يخترق جسد عماد وهو ما زال مرفوع الرأس وسكينه في الأعلى. استمر إطلاق النار حتى تمدد الجسد منهاراً، لكن كل الرصاصات لم تستطع أن تُطفئ الإبتسامة المنتصرة التي ارتسمت على محياه.
طردنا الجنود من هناك، وذهبت للمدرسة وأنا أفكر بتفاهتي وتفكيري القاصر، وبكل الأسباب التافهة لحقدي عليه. حاولت أن أجد سبباً جدياً أختبئ خلفه، ولما لم أجد إزداد غضبي على نفسي، وحقدت عليها أكثر، ولعنت السلطة ونفسي والزعيم.
كانت مفاجأتي أكبر عندما أخبرني طلابه أنه ودعهم يوم أمس قائلاً: “أنه سينتقل إلى مكان أخر، وطلب منهم أن يسامحوه إن كان قد أخطأ معهم أو قصّر بحقهم.”
ـ ماذا؟ لا يا حضرة المحقق أحمد، أنا لم أكن أعلم من قبل بأنه يريد أن يفعل ذلك، ورغم عدم استلطافي له، إلا أن دمه مسح كل ذلك، نظف ما علق من أوساخ على أطراف ثوبي. مع كل طعنة من سكينه كان الحقد المتراكم ينزاح من صدري وقلبي وعقلي، فالثأر واحد والأرض المغتصبة نفسها، والإذلال على الجميع نفسه، والدم الذي شربته الأرض واحد.
أصدقك القول أنني لم أسمع يوماً أن الأرض قد سألت يوماً من أي فصيل هذا الشهيد، لكنك كمحقق، لا تستطيع أن تعرف أو  تحزر أو تفهم كمّ النظافة التي يصنعها دم الشهداء، وكيف ينقل الأنسان إلى درجة العفة والطهارة والتقديس، لدرجة تجعل الألم يعتصرني لأنه لم يكن ذات يوم صديقي.
لا يا حضرة المحقق، الحق أقول لك، حتى لو كنت أعلم أنه سيفعل ما فعل، ما كنت لأخبرك بذلك، لا مشكلة عندي، إحبس كما تشاء وقدْر ما تستطيع، لكنني لن أسكت بعد الآن أبدأ.

تعليق واحد

  1. قصة من نبض الواقع .ترددها الفضاءات والأذن للعالم تسمع.
    لكن صمود شعبنا هو الأمل والعنوان الثابت الحقيقي لقضيتنا وإصرارنا على الصمود والنصر.
    تحيةةلأرواح كل الشهداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى